لوتش ونيكولس يقاضيان الجور الحداثي

زياد الخزاعي

أميناً الى خطابه الإيديولوجي، وضع المعلّم البريطاني كين لوتش (79 عاماً) حجراً آخر في جبل تحاملاته وتنديداته بالنظام الرأسمالي في جديده «أنا، دانيال بليك»، فيما شنع الأميركي جف نيكولس في «لوفينغ». كلا الشريطين عُرضا ضمن المسابقة الرسمية الدورة الـ69 (11 ـ 22 أيار 2016) لمهرجان «كانّ» السينمائي، بهذا النظام من باب خطاياه العنصرية وفاشيته الاجتماعية التي سعت الى النيل من وحدة عائلة هامشية، تشكلت من زيجة مختلطة الأعراق بين رجل أبيض وامرأة زنجية في الخمسينيات الأميركية.
ما سعى اليه لوتش، بعد مقاربته الدولة البوليسية في «صالة جيمي»(2014)، وقبلها العطالة المتفشية في أسكوتلندا في كوميدياه «حِصّة الملائكة»(2012)، وجرائم التعذيب التي مارسها الجيش البريطاني في العراق في «المعسكر الإيرلندي» (2010)، هو التبصّر في واحدة من أكثر المعضلات الاجتماعية في بريطانيا تسيساً، ألا وهي الإعانات الاجتماعية التي تعتمد عليها ملايين من العائلات الهامشية، شرعت حكومة المحافظين في الآونة الأخيرة في استهدافها ضمن خطة تقشف شاملة تنذر بعصيان مدني، وجد تمثله الدرامي في شريط لوتش، بشعارات يخطها بطله النجار دانيال (ديف جونز) على جدران بناية تضم «مكاتب الرعاية الاجتماعية»، هي في الواقع عيون سلطوية ترصد مخالفيّ ومتحايلي نظام المعونة. تجري الأحداث في مدينة نيوكاسل الشمالية، وهي أحدى معاقل «حزب العمال»، وميناء شهير يعج بالمقاصف وبيوت البغاء، بيد أن لوتش لا يذهب مباشرة الى تراجيديا دانيال، بل يصرف المقطع الافتتاحي لنصّه في تبيان محيط رجل متوسط العمر من أقلية عرقية تُدعى الـ «جوردي» ترمل حديثاً، وصُرِف من عمله بسبب معاناته من ضعف قلبه. يعيش في مجمع سكني حكومي تختلط فيه أعراق وحزازات جيرة وفقر وعزلات عائلية.
إنه كائن مبدع، حيوي وودوود، ومنذور لإنسانيته وكرامته. لا يخشى دانيال يومه، فهو مُحصّن من قبل بشر يجلّون فيه رجولته وحميته ومرحه. نراه، حارساً لمجمعه السكني ضد دخلاء، أو ذائداً عن أم شابة ضد جوع ومذلة، أو نراه ثائراً لا يتأخر عن شتم نظام أناني. دانيال هو يسوع حداثي لا يرغب في التغيير بل في الإنصاف وتحقيقه، ولا يسعى الى مواجهات خاسرة بل الى رفع الحيف ودحره.
أنا رجل ولست كلبا
آخر همّوم هذا المواطن العصامي والمتوحد، الذي تعتمد حياته بالكامل على دفعة بدل عمل مالية إسبوعية، وصول رسالة مشؤومة من وزارة الشؤون الاجتماعية تنذره بالعودة الى العمل أو قطع الإعانة. تنقلب حياته، ذلك ان استخدام أنظمة مستحدثة للتواصل مع طالبي العمل، حولت تلك المراكز الى ساحة حروب بيروقراطية مريرة، مفعمة بشكوك ومهانات وقسوات وخيبات. إنها سياسة إذلال عامة، تبدأ من ملء استمارات طلب إلكترونية تصبح علّة كبيرة لدانيال الأمي في التقنيات المستجدة، وتنتهي بلقاءات مع موظفين يتحولون الى مستجوبين ومحققين ساديين، شعارهم إن العاطل مجرم يسعى الى سرقة مال عام. انتخب الثنائي لوتش وكاتب السيناريو بول لافيرتي يوميات دانيال ومحنه برويّة درامية شديدة الواقعية. بعض فصولها صادم، كما هو مشهد الأم الشابة كيتي (هايلي سيكوايرز) وطفليها داخل «بنك الفقراء» الكنائسي الذي يقدم معونات غذائية، والتهامها غذاء معلباً لشدة جوعها، أو رضوخها لإغواء المال الحرام عبر ممارسة البغاء، بمساعدة رجل كشف سرقتها مواد نسائية من متجر يعمل فيه حارساً. فيما نرى دانيال يبيع أثاث بيته للبقاء حياً، قبل أن تصرعه جلطة حاسمة.
هذا نصّ سينمائي غاضب ومسيس بقوة ضد توحّش سلطوي يستهدف طبقة مدحورة، ولا يقبل بتبريرات. يتساير «أنا، دانيال بليك» مع عقيدة الزعيم الجديد لـ «حزب العمال» جيرمي كوربن المتشارك مع لوتش في رؤى يسارية تناضل ضد فساد الطبقات الحاكمة ودعم القوى الشعبية، عبر عنها هذا الأخير بقراءة كيتي لكلمات «داني» الدفاعية عن حقه بالحماية المالية خلال مشهد تأبينه، ويقول فيها: «أنا دانيال بليك. أنا رجل ولست كلباً. أنا مواطن، لا أكثر ولا أقل».
البطل الضد
من جهته، أطلق صاحب «حكايات بندقية» (2007) و «تحصنوا» (2011) الأميركي جف نيكولس سهامه السينمائية تجاه ضمير عرقي، تسلح لفترة طويلة خلف عنصريته وجرائمها. جديده «لافينغ» (123 د) هو استعادة درامية لواحدة من القصص الانقلابية الشهيرة في الجنوب الأميركي، أدت الى إلغاء حكم متعصّب جائر ولا إنساني، اعتبر الزيجة المختلطة بين البيض والزنوج أمراً محرماً، وخارجاً عن «الإرادة الإلهية» التي وضعها نيكولس في مفتتح فيلمه على لسان قاض متنمر في ولاية فرجينيا عام 1958، يفصل بين الشاب ريتشارد لافينغ (جول أديغرتن) وزوجته السوداء ميلدريد (روث نيغا)، قبل أن تتجاسر الأخيرة على رفع مظلمتها الى سلطات واشنطن، وتحقق فوزها المظفر في قاعات المحكمة العليا بعد معركة طويلة، تزامنت مع هبة حركة الحقوق المدنية (1945 ـ 1965) بقيادة القس مارتن لوثر كينغ.
راعى نيكولس أمرين ميزا عمله، انتصاره الى الاحتفاء بـ «بطل ـ ضد» إذ مارس حقه بأكبر قدر من العزم والحياء الشخصي، متجنباً نفخ شخصياته باعتبارهم جبابرة غيروا تاريخاً. فالزوجان مواطنان عاديان، هو سمكري سيارات وعامل بناء، وهي سيدة بيت من محتد ريفي متواضع. ثانياً، متشاركاً مع لوتش، أضفى نيكولس على شريطه وفرة من التروّي الدرامي، حيث لا صدمات ولا مشاهد مثيرة. أنه تسجيل بليغ لحيوات عائلة أراد نظام قهري أن يبيد وحدتها. فحينما يسأل المحامي بيرني كون: «ماذا تريدني ان أخبر القاضي»، يرد ريتشارد بهدوء: «قل له إنني أحب زوجتي».

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى