صبحي شحاتة يدعو إلى «اللعب» في زمن البؤس

يسري عبد الله

تحضر الكتابة في رواية «اللعب» للروائي المصري صبحي شحاتة (كتب الجنوبي للنشر) بوصفها لعبة فكرية وجمالية، بدءاً من الإهداء الدالّ للنص، والمتسم بروح طفولية شفيفة: «إلى كل الأطفال/ بما فيهم صبحي طبعاً»، والمتجادل مع التصدير الذي يسبق الرواية، والذي يحيل فيه الكاتب إلى الفيلسوف الألماني نيتشه: «الإنسانية الناضجة: هذا يعني أننا اكتشفنا القيمة الكاملة للعب الطفل». وتبدو الإحالة إلى نيتشه هنا إحالة إلى عالم عدمي بامتياز، إذ يتماس النص مع جملة من الأفكار الفلسفية المتصلة في جوهرها بما يسمى بـ «فلسفة اللعب»، التي تحضر بقوة في كتابات كانط وشيلر وغيرهما، عبر تنظيرهما المنهجي عن علم الجمال. وبدا شيلر ناظراً إلى اللعب بوصفه نشاطاً إنسانياً يمزج بين الجهد الذهني والمهارة الحركية والنزوع الفردي للمتعة والتسلية، فارتقى بهذا المفهوم عبر ربطه بالإبداع والحس الجمالي.
تنتمي رواية «اللعب» إذاً إلى هذا النسق من الكتابة المولع باللعب، وبتحقق الحرية في أساسها الفردي، والذي لا يرى في العالم صراعاً بين جملة من الأضداد المتناقضة، إنما يسعى صوب الإدراك المابعد حداثي للعالم، حيث تتجاور المتناقضات وتحيا جدلاً خلاقاً في ما بينها. ومن ثم يصبح الارتحال الزمكاني القلق للسارد/ البطل موزعاً بين أضداد متنافرة للوهلة الأولى، وسياقات مختلفة ومتعددة في جوهرها العميق.
تتشكل رواية «اللعب» من ثلاثة أقسام سردية؛ «نعم، لا/ الحياة العادية/ كهف الظـلال»، وتبدو بمثابة محاولة لخلخلة السائد والمستقر، عبر تغليب الفنتازيا كما في «نعم، لا»، أو محاولة تخليق عالم عبر الإحالة إلى مدينة متخيلة كما في «الحياة العادية»، أو الحضور الواعد للمنحى الذهني مثلما في القسم الأخير «كهف الظلال».
ثمة بشر متفاوتون في مستهل الرواية، يمرّ عليهم السارد/ البطل في رحلته لاكتشاف العالم، بعضهم يعبث، ويلهو، وبعضهم يصلي ويتعبد، وبعضهم يمارس رياضة الجري، وبعضهم يلعب الروليت. ويحضر هذا كله عبر حس ساخر تهيمن عليه مشاهد سردية عديدة داخل الرواية، يصبح فيها القارئ جزءاً من متن السرد، بخاصة في ظل كتابة شغوفة بالتحرر من المواضعات الكتابية السائدة، والتقاليد الاجتماعية المألوفة، ومن ثم فهي تحتفي بالتقنية، من قبيل ولع الكاتب بتحقيق الوظيفة التواصلية للسرد، عبر أكثر من موضع داخل الرواية، بدءاً من المفتتح السردي: «مضيت إلى المسؤوم؛ عفواً المسؤول، كان يجلس أمام مكتب فاخر باذخ الإضاءة…» (ص 6)، وكذلك: «قادَني نشيطاً- أليس من المفروض أن يوكل مهمة توصيلي إلى أحد الخدم أو العمال؟» (ص7).
تعد الفنتازيا بمثابة البنية المهيمنة على النص، وتتواتر المشاهد السردية معتمدة على عالم تخييلي يقربه الكاتب من متلقيه عبر استحضار عناصر متكاملة لبناء الصورة السردية: «فها هم يركضون خلف بعضهم؛ يركب هذا فوق كتف ذاك، أو يزحفون رجالاً ونساءً كالجنود، أو يقفزون في الماء أو يتسلقون الجبل ويملأون الأرض الخضراء المديدة لعباً كأنهم في عيد. مررت بجماعة تقيم مباراة في البكاء والضحك في آن…» (ص 25).
ثمة تعرية للذات الساردة التي لا يقدمها الكاتب بوصفها مرآة العالم، أو مركزاً له، ومن ثم نرى جملاً سردية دالة من قبيل: «انسحبت كلصّ/ كلّ خيالاتي الماجنة»، وبما يعني أننا أمام كتابة تنتمي في جوهرها إلى ما بعد الحداثة. فهي لا ترى العالم من منظور أحادي، يقيني/ مستقرّ، كما تبدو غير صاخبة أيديولوجياً. إنها باختصار كـــتابة صـــادمة لمتلقيها، ولا تحفل بالمواضعات الاجتماعية، وإنما تحفل بالجمالي فحسب، من دون أن تنسى متلقيها، يحيث تصير المتعة الفنية بمثابة الجسر الواصل إلى جمهرة المتلقين.
ويتناص في مكان ما مقطع من الرواية مع الأغنية الشهيرة لأم كلثوم «هذه ليلتي»، والتي كتبها جورج جرداق، ولحنها محمد عبدالوهاب. ويبدو الجدل ما بين الفنتازي والرومانطيقي حاضراً في المقطع السردي السابق، وإن ظلَّ الحسُ العبثي مهيمناً على فضاء المشهد الروائي، في رواية تستعير روح السرديات الصغرى وآلياتها، حيث لا مكان هنا للمقولات الكبرى، وإنما صوغ جمالي لتأزمات الذات وهواجسها ولعبها وولعها المستمر بالحياة، ومجابهتها للموت عبر السخرية منه والتندر عليه، أو الوقوف أمام فلسفته كما في «كهف الظلال».
ولكن، يظلّ صبحي شحاتة في حاجة حقيقية إلى توسيع أفق المشروع عبر تنويع الخطابات السردية وتوسيع مداها الدلالي، والتخلص من مساحات الذهنية المحضة التي تهيمن على بعض المقاطع السردية.
وعلى رغم ذلك، فإن رواية «اللعب» تمثل تعبيراً جمالياً ناضجاً عن كتابة مختلفة، تنزع صوب التجريب المستمر.
وعلى رغم احتفائها بالعدمية وانحيازها إلى العبثي، وتكريسها للعب بوصفه أداةً لفهم العالم والتعاطي معه. غير أنها تحمل في جوهرها موقفاً احتجاجياً من العالم، ولكن عبر منظورات جديدة، ذاتية وهامشية، وليس عبر الصراخ الأيديولوجي. وبما يعني أننا أمام كاتب يعمل على مشروعه السردي الخاص، بدأه برواية «الضحك» ثم «اللعب»، وبما يعني أيضاً أن الرواية المصرية تحيا زخمها الخاص، المعبر عن سرود مختلفة، وتصورات جمالية متعددة صوب النظر إلى الحياة والعالم والأشياء.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى