ميسون صقر تكتب ملحمة الخليج … بين صيد اللؤلؤ وظهور النفط

صبحي موسى

تتقاطع المصائر في رواية الإماراتية ميسون صقر «في فمي لؤلؤة» (الدار المصرية اللبنانية)، بحيث بُني العمل على خطين متوازيين. أولهما يدور حول عالم قديم في بداية القرن العشرين، وهي المرحلة الفاصلة بين الحياة القائمة على صيد اللؤلؤ والتجارة فيه، وبين ظهور البترول الذي أنهى على هذا النمط من الحياة لمصلحة نمط آخر أكثر حداثة وأقل جهداً. وهو ما يمثله الخط الثاني الذي لعبت عليه صقر حين سعت إلى رصد ما صارت عليه الحياة في شكلها العصري بدءاً من فكرة متحف اللؤلؤ، وصولاً إلى مركز المخطوطات في أدنوك، مروراً برغبة البطلة في إنجاز فيلم وثائقي عن عالم الصيادين.
وبين هذين العالمين تأتي فقرات الربط الأساسية في تشابك الأحداث وتقاطع مصائر الشخوص، جاعلة من العمل وحدة عضوية تبحث في مجتمع الخليج العربي لترصد تحولاته خلال قرن.
في هذه الرواية نتوقف أمام المجتمع الخليجي في شكله المنتمي إلى القرون الوسطى، أي قبل دخول المتغيرات الحديثة عليه، فنجد مجتمعاً قائماً على صيد اللؤلؤ بكل ما يمثله من مخاطرة وجهد كبير.
يـــبـــرز مــــرهــون بــوصفــه الشخصية المتأرجحة ما بين الأسطوري الفانتازي والواقعي المتعين. مرهون، هو رمز المعاناة التي يعيشها كل صياد يعمل على ظهر سفينة تابعة لنوخذة يتهدده ويمتص دمه ويبيعه لتاجر اللؤلؤ.
تعد نقطة الصراع الأكبر في الرواية هي اللحظة التي فكَّر فيها يوسف في الحصول على اللؤلؤة الكبيرة التي أخرجها مرهون من البحر، فتعقدت مصائر الناس، وتحولت الحياة من شكلها الرومنطيقي المعتاد إلى الحرب المضمرة والمعلنة في آن. لذا فكرت آمنة، زوجة يوسف في أن تتخلّص منه، فسرقت اللؤلؤة وهربت، ولم يكن هناك سوى سفينة «كاترين» التي رست على الشاطئ لتلجأ إليها، ولتبدأ قصة أشبه بقصص السندباد البحري معها. ولكن في هذه اللحظة أيضاً تقوم العاصفة وتنهي على سفينة النوخذة أبو حمد، ليعود الجميع إلى البر، وبعدها تقوم حرب بين أهل المكان والإنكليز وغيرهم.
تتعقد إذاً أحداث الرواية في لحظة واحدة، لكنّ الكاتبة تتعامل مع ذلك بمنطق أنّ الحياة لا تتوقف على أحد، وأنّ الكاميرا تسير حيث تتواجد الأحداث المهمة والمثيرة. ومن ثم تنفتح علينا نافذة كاترين بعالمها الجديد، كسيدة إنكليزية قررت أن تكون رُبَّاناً لسفينة تابعة للجيش البريطاني، وأمام رجالها كان لا بد أن تتزوج أو تختار كربانٍ/ رجل، خليلة. وكانت «آمنة» هي الحل، غير أن لها أغراضها أيضاً. فهي نشطت في التجارة بين البلدان التي تمر بها سفينتهم، وحققت ثراءً واسعاً، حتى إنها قررت السطو على جزيرة لتقيم عليها مملكتها التجارية.
أوجدت صقر في روايتها روابط أساسية بين عالمها القديم بشخوصه شبه الأسطورية وعالمها الجديد الذي تمثل فيه شمسة، شخصية البطل والسارد. فالرواية تجيء انطلاقاً من البحث الأكاديمي الذي كان من المفترض أن تجريه شمسة على اللؤلؤ بوصفها طالبة دراسات عليا في علم الاجتماع. لكنها تختلف مع أستاذها عز الدين وتقرر أن تكتب رواية عن الرجال الذين أضاعوا أعمارهم من أجل الحصول على هذا اللؤلؤ. وفي الطريق إلى هذه الغاية نلتقي بصديقتها «مروة» التي لا نعرف إن كانت تحبها إلى درجة الغيرة عليها أم أنها تتمتع بخفة وسذاجة لا يتفقان مع نص بكل هذه القوة والثقل.
ثمّ نلتقي سالم، الذي يحب مروة وينشغل بمساعدة شمسة في كل ما تريده. وتلعب الجدة دورها الفريد والمعتاد في القرى والمجتمعات الشرقية في الحكي عن الماضي وتشابكاته وتعقيداته، ومن خلالها نعرف البنية التحتية الكلية للنص. ومن ثم تسعى «شمسة» في ما بعد إلى استكماله واستقصائه من أرض الواقع، فتذهب إلى مركز المخطوطات، وإلى الحصن القديم، إلى مقهى الصيادين وتسأل عن مرهون لتجمع ما تستطيع من حكاياته أو ما تبقى من مرويات عنه.
وفي النهاية يجيء معرض الصور الذي تلتقي فيه أهم روابط الماضي بالحاضر، عبر شخصية وليم؛ المصور والجاسوس والعاشق لكاترين وأمها فكتوريا، التي عملت ممرضة في إثيوبيا. يمثل وليم النور والظل في لحظة واحدة. فهو رمز العالم السري، سواء بعلاقته مع كاترين وأمها، أو بعلاقته مع المعتمد البريطاني لمنطقة الخليج، والذي أكملت مراسلاته الكثير من الفقرات الناقصة في بنية النص الحكائي الكبير. ولعبت اللؤلؤة الكبيرة التي أخرجها مرهون من البحر فكرة الرابط الأساس في النص ككل، فهي التي دار الصراع عليها في عالم السفينة، وبسببها تحوّل النوخذة إلى قاتل، وانفضَّ من حوله الجميع، وانقضى عصره كرجل قوي مهاب، وبسببها هربت آمنة مع كاترين، وظلت تتنقل حتى وصلت إلى جدة شمسة التي ذهبت إلى أحد الصاغة ليصنع عقداً يليق باللؤلؤة العظيمة، فوجدته يخرج لها عقدها القديم قائلاً إنه كان يبحث عن اللؤلؤة الفريدة التي تكمل عقد ملكة تدمر، وأخيراً وجدها. فتشتريه منه الجدة طالبةً وضع اللؤلؤة في مكانها، غير أن الرجل يحتفظ بصورة للعقد. تلك الصورة التي زيَّنت معرض اللؤلؤ، وخطفت نظر شمسة، فما أن رأتها حتى خرَّت مغشياً عليها وهي تصيح بأن هذا العقد ورثته أمُها عن جدتها، ليُختتم النص بوضع العقد في متحف اللؤلؤ لتنتهي عذابات حامليه والمتعاملين مع لؤلؤته العظيمة.
لم تتوقف صقر عن المزج بين الواقعي والأسطوري، جاعلة من عملها نوعاً من الاحتفال بقيمة الخيال وتنوعه على مدارات عدة، بدءاً من «مرهون» الذي يحادث البحر، مروراً بشخصية شمسة التي يختلط علينا إن كانت مريضة نفسياً أم أنها صاحبة قدرات خاصة، وصولاً إلى العلاقات الإنسانية الطبيعية وغير الطبيعية في سياقاتها. هكذا؛ نجد أنفسنا أمام نص ثري يتمتع بلغة بسيطة تمزج في حواراته بين العامية الخليجية والعربية الفصحى، ومختارة لنفسها هيئة البحث الأكاديمي كطرح جديد لبنية سردية مختلفة.
فالنص يشتمل على مقدمات للأبواب والفصول، ومختارات قـصيـرة في بـدايــة كل منها، وعلى هوامش ومراجع، وعناوين داخلية وأخرى فرعية، وكان الاحتفاء الأكبر بقيمة المعلوماتية في الحـــديـث عــن اللــؤلـؤ وأنـواعـه وأشهر من ارتدوه أو تعاملوا فيه.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى