بكاء متأخر للعرب على رحيل النخب الثقافية والفكرية

محمد باهي

 

بالرجوع إلى الذاكرة العربية في علاقتها بالمبدعين والمفكرين الأجانب الذين أبدوا تعاطفا منقطع النظير، مع قضايا عربية رفعوا من خلالها تحديات كبيرة، وتعرضوا لمضايقات وانتهاكات جسيمة داخل أوطانهم، نستحضر الأسى والبكاء المتأخر للعرب على رحيل الكاتب غابريل غارسيا ماركيز، صاحب الأعمال الخالدة: «مئة عام من العزلة»، و»خريف البطريرك»، و»الحبّ في زمن الطاعون»، و»وقائع موت معلن»، ومثيلاتها من روائع المتن الروائي التي شكلت محور جذب واستقطاب، ومتابعة وإعجاب آلاف القراء في مختلف أنحاء العالم، ودخلت أعماله من الباب الواسع إلى القارات الخمس، من خلال ترجمتها إلى الكثير من اللغات، أجل .. أن يصدر بكاء وحسرة وأسى على واحد من أبرز الكتاب من قبل العرب بعد رحيله، فتلك مشاعرهم وقناعاتهم ومواقفهم، إلا أن التساؤل عن مدى صدقيتها يتبدى من خلاله شيء من الارتياب، حول مدى حجم رد الاعتبار له مقابل تعاطفه معهم وإبداء مواقفه في قضايا تخصهم حين كان لازال على قيد الحياة؟ حيث اكتسب شهرة عالمية، وسطع نجمه وتحول إلى واحد من بين أبرز مشاهير الكتاب والمبدعين، وأمام ازدواجية التعاطي مع غياب غارسيا ماركيز، من خلال التنكر له وهو على قيد الحياة، إلى إغداق كل ذلك الثناء والتبجيل والمديح له بعد رحيله؟ لا يسعنا إلا أن نبدي كل الأسف على شاكلة مواقف متذبدبة كهذه، على الوضع الاعتباري لمن كانوا يمتلكون حمولات فكرية وثقافية، سواء منهم الأجانب ممن دافعوا عن قضايانا العادلة، أو نخبة المثقفين والمفكرين والمبدعين من بني جلدتنا ممن غادرونا في غفلة منا، تاركين للبشرية إرثا ثقافيا وتراكما معرفيا، وتراثا وحمولة سوسيولوجية وأنثروبولوجية وتاريخية، منفتحة على كل الشعوب والحضارات، مواكبة لشتى التحولات والتطورات، منبعثة من عمق المعاناة، وتحمل الكثير من الرؤى الاستشرافية والرسائل والدلالات، وباعثة لروح التفاعل والتمازج الثقافي بين صفوف طلبة المعاهد والجامعات.
وفي سياق انطباعاته عن تفاعل العرب مع أعماله الروائية، وفي أحد الحوارات الأدبية مع الراحل غارسيا ماركيز، سئل مرة عن العرب فقال بأنه سمع بأن كلّ رواياته ترجمت إلى لغة الضّاد، وأنها تباع على الأرصفة في العواصم والمدن العربية، غير أنه لم يتلقّ فلسا واحدا من قبل المؤسسات التي أصدرت أعماله. كما لم يتلقّ أيّ دعوة من سفارة عربيّة! وكان على حقّ في ما قال حسب الكثير من النقاد والكتاب العرب. والحال أنه -أي ماركيز- كان لا بدّ أن يكرّم عربيّا لأسباب عدّة. ففي العديد من الحوارات التي أجريت معه، اعترف بأنه تأثر مبكّرا بروائع ألف ليلة وليلة». كما أنه جعل مواطنا من أصل سوري، هو سانتياغو نصّار، بطلا لرائعته «وقائع موت معلن». وفي العديد من آثاره نلمس انجذابه إلى الأسلوب الشيّق والمثير الذي يتميّز به الرواة في بلاد الشرق. ومن الطرائف التي كان يرويها أنه لمّا عاش مشرّدا في باريس في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي، وكانت حرب التحرير الجزائرية مشتعلة آنذاك، أوقفه الدرك الفرنسي أكثر من مرّة بسبب ملامحه المغاربية! بالإضافة إلى هذا كلّه، كان ماركيز متعاطفا مع مجمل القضايا العربية، وأبدا لم يزر إسرائيل التي قاطع من خلالها العرب مبدعين أجانب كبارا ممن تهافتوا على زيارتها من قبيل: الكاتب خورخي لويس بورخيس عندما قبل الحصول على «جائزة القدس»، حيث شنّ عليه العرب هجومات عنيفة، على الرغم من كونه كان من أكثر المتأثرين بالثقافة العربية، إلى جانب كتاب آخرين من العيار نفسه ممن كانوا مولعين بتفاصيل الثقافة العربية وتمظهراتها وتجلياتها، وعارفين بخبايا تلكؤاتها وكبواتها، وغير جاحدين لحجم ما بلغته من إنجازات ومكاسب وانتصارات، ومدركين لما كانت تراهن عليه في سياق الطموحات الثقافية، ومستشرفين لمدى تفاعلها مع راهن التكنولوجيا الحديثة، ومشخصين لحجم الانخفاض المتنامي لنسبية المقروئية والإقبال على الكتاب، وواعين بوضعيات ومنزلقات الانزواء في غرف الدردشة والاعتماد على المعرفة الجاهزة، ومحذرين من الانصهار كليا في متاهات شبكة التواصل الاجتماعي الموغلة في تشتيت الوعي والانتباهات.
ويبقى النحيب والبكاء والأسى على رحيل النخب الثقافية والفكرية ميزة عربية بامتياز، اتجاه صناع الفكر ورموز الثقافة ومنتجي المعرفة، وعقب كل رحيل، ونحن محط مزيد من الحرج والاستفزاز، مستسلمين لدوامة القنوط واليأس والاشمئزاز، غير مبالين بمساءلة التاريخ وجدلية صراع الأجيال.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى