لقاء وحيد ..للكاتب جعفر العقيلي

خاص (الجسرة)

 

(1)
كان يهمّ بإزاحة الستارة حين لاحظَ حركةً خلف ستارة النافذة المقابلة، خمّن أنها لفتاة، فسرت رعشةٌ في جسده حين رسمَها خيالُه على هيئةٍ مشتهاة، لكنه سرعان ما نفضَ الفكرة من باله!

(2)
تتوالى المعاملات التي تُلقى على مكتبها، فتُكرّر الحركةَ الميكانيكية نفسها؛ ترفع الخاتم الرسمي، وتضربه بقوة في ذيل الورقة.
مئات الوجوه تمر من أمامها، لكنها حينما تغادر الوظيفة، لا يعْلقُ في ذاكرتها أيٌّ منها. إنه عملٌ والسلام!

(3)
يبكّر في الذهاب إلى الجامعة، يجاهد ألّا يتغيب عن أيّ محاضرة، فقد جاء إلى المدينة لغاية محددة؛ الشهادة. فهي وحدها “جواز سفره” إلى الحياة!
يصعد إلى الباص، ومن حوله يتراءى البشر نُسَخاً كربونية عن بعضهم بعضاً، فقد قرر أن يعطّل حواسه، وأن يلغي الكاميرا التي في ذاكرته!

(4)
تتحايل على وحدتها بالذهاب إلى المقهى مساء، تقودها رغبتها في العزلة إلى طاولة في الزاوية، تجلس في مواجهة الحائط البارد مديرةً ظهرَها للحياة، تدخّن النارجيلة وتحتسي فنجاناً وحيداً من قهوةٍ بلا سكّر، ثم تغادر.

(5)
يعمل نادلاً في مقهى، فبغير ذلك لن يستطيع دفع إيجار الغرفة التي يسكنها. وحين يعود مجهَداً لا يكون بانتظاره سوى سرير بارد ونافذة يزيح الستارة عنها كل ليلة.

(6)
أشعلت ضوءاً خافتاً، وتمددت على السرير تتأمل العمر الذي مضى.. شعرت بانقباضٍ حين انتبهت إلى أن قطار الزواج يكاد يفوتها، فقررت القبول بمقعدٍ مهترئٍ ولو في عربته الأخيرة، فهذا خيرٌ من أن يمضي من دونها.

(7)
فكّر أن “يتسلّى” قليلاً، فالضجر يقتله والليل موحش. وقف عند النافذة وأطال النظر علَّهُ يحظى بِطَلّتها. تزحف الدّقائق ثقيلةً، ويُطبق السكون!

(8)
تصحو من إغفاءةٍ قصيرة، تقرر إزاحة الستارة، وتستبدّ بها رغبةُ الوقوف عند النافذة. وحين توقن أن العالم نائم، تجرّ أذيالَ خيبتها إلى فِراشها من جديد.

(9)
يقرر أن يفتح قلبه قليلاً على الحياة، ففي المقهى ثمة فتيات يخلبنَ اللبَّ بمفاتنهن وأنوثتهن الطاغية، ولا بأس ببعض الصُّحبة إذا لم يكن في ذلك تجاوزاً لـ”الخطوط الحمراء”!

(10)
أصابها الملل من الحائط، فاختارت هذه المرة الجلوس على المقعد المقابل لذلك الذي اعتادت عليه، قائلة لنفسها إنّ ثمة حياة تستحق أن تُعاش، وإنّ عليها أن تلتفت إليها!

(11)
يأوي إلى غرفته، تلحّ عليه فكرة الوقوف أمام النافذة، يزيح الستارة، فتكون كما لو أنها على موعد معه! لا يستبينُ من ملامحها شيئاً، ولا تستبين من ملامحه شيئاً! لكن دفئاً حلّ في جنبات القلبين الباردين.

(12)
يتكرر المشهد في الليلة التالية، وحين يرتمي كلٌّ منهما على سريره، تؤججه رغبةُ في التعرُّف على “الكائن” الذي أوقد المشاعر الدفينة!

(13)
ثلاث عشرة ليلة مرت قبل أن يتجرأ ويرسل لها رقم هاتفه رسماً بحركات من يده في الهواء. تتصل به فوراً، وكانت مكالمة قصيرة شابَها الحياء والتردد والقلق، واتفقا على اللقيا في المقهى!

(14)
خلع منديل النادل وقرر أن يمنح نفسه ساعةً بوصفه أحد الزبائن. سار نحو الطاولة الموصوفة التي لم يكن قد انتبه إليها أو إلى من يَشغلها من قبل، وحينما قصرت المسافة بينهما، أدركتْ أنه أصغر بكثير مما توقّعتْ، وبدا له أنها تكبره بما يكفي ليتوقف عند هذا الحد!
أدار ظهره وعاد ليرتدي منديله ويحتمي بوحدته، في حين غادرت هي المقهى على عجل، مقررة أن تبحث لها عن مقهى جديدة تليق بوحدتها التي لا تجيد سواها!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى