كزافييه دولون.. المطهر العائلي وحروب العواطف

زياد الخزاعي

يُمكن اعتبار فوز الكندي كزافييه دولون (27 عاماً)، بالجائزة الكبرى في الدورة الـ 69 لمهرجان «كانّ» السينمائي، لعنة أخرى من لعنات الاستقطابات النقدية وتضارباتها في ما يخصّ موهبته وصناعته وذائقته التي قادته منذ باكورته «أنا قتلت أمي» (2009) نحو «سعير» المطهر العائلي. يراه البعض عبقرية مستولدة من نطفة سينمائية مجيدة، لا بدّ له من نيل ثناءات تمايزه. في ما رأى كثيرون أن الوقت مبكر لاكتشاف ما إذا كان «شقيّ السينما» يستحق كلّ هذه الجَلَبَة. أصرّ هؤلاء على أن لا مكان لاعتبارات عمره في حججهم، وهو الذي كتب باكورته أعلاه في سن الـ17، وأخرجها بعد ثلاثة أعوام لاحقة، بل إن ما قدّمه في أشرطته الخمسة لا تبتعد عن كونها «استيلادات» متبصّرة لاشتغالات الإميركي المستقل جون كاسافيتس وسينماه المعنية بـ «المألوف والبراغماتي». عندهم، إن دولون حافظ على ثيمة «العروة الشخصية»، وهي إحدى ركائز سينما مخرج «ظلال»(1959) و «وجوه» (1968) و»امرأة تحت سطوة» (1974).
في عمله الأول، جعل من بطله اليافع والمثلّي «أوبير» غولاً أنانياً وصلفاً. يواجه والدته باحتقار وعدائية، انعكاساً للوعة شذوذه. لكنه لن يتردد من إعلان يمين مفاجئ تجاهها، عندما يقترب من بلوغه، ويعترف: «أنا أحبك. أقولها لك كي لا تنسي»، من دون أن يعني الأمر نهاية حربهما المتبادلة. يتحوّل استحقاق المحبة هذا في نصّ «أماه» (2014) إلى تساؤل على لسان شاب غليظ الطباع: «أماه، هل لا نزل نحبّ بعضنا؟»، فتجيبه بحُرقة بالغة: «هذا ما نُحسِن صنعه يا بني!»، ويتفقان على «رضوخه» لخططها الرامية الى «تطّبيعه» مع حياتها برغم فوضويتها، ومع الآخرين برغم جفواتهم، ومع الحب برغم عصيانه. بيد أن سادية النظام تفرض على الشاب ترويضاً قسرياً بديلاً، يقوده الى استعداء الجميع، والخضوع لاحقاً الى قصاص صارم.
التباغض
يظهر هذا التباغض بقوّة في جديده «إنها فقط نهاية العالم» المقتبس عن مسرحية الفرنسي جان ـ لوك لاغارس (1957 ـ 1995)، حيث يصبح التعهّد الأسري أكثر مرارة وغلاظَة. فعودة الإبن الكاتب المسرحي «لوي» (غاسبار يوليل) الى حضن أهله ودارتهم الريفية عازماً على إخبارهم حقيقة إصابته بمرض نقص المناعة «الإيدز»، واقتراب رحيله عن عالمهم، هي إيذان درامي لمذبحة عواطف وحروب فردية وكشف عورات أخلاقية وتبادل إهانات. تتحوّل الكينونات الخمس الى وحوش أوروبية ضمن كوميديا سوداء، تميّزت بوفرة اللقطات المقربة (كلوز أب) لوجه الممثلين، تسعى الى تصفية ضغائنها كلّ حسب أجندته الشخصية. يتجسّد الشقيق الأكبر أنتوان (فنسان كاسيل) كـ «لوسيفر» (إبليس) منحوس وعاصٍ وغيور. يعارض كل خطوة، ويكسر كل همّة، ويستخفّ بكل كرامة. يكون نفوره وهياجه ولعناته وسبّابه، طعنات موَسْومة على فؤاد الأواصر العائلية وتضافرها. فجلسة مائدة الغداء اليتيمة، هي مداولة ثرثارة وتجريحية لـ «لوي» وأسباب غيابه، وتشنيع بالأم «مارتن» (ناتالي باي) وخفّة شخصيتها، وسعيها الناقص إلى لمّ الشمل والحفاظ عليه، وكسر لشوكة تمرّد الشقيقة الصغرى سوزان (ليا سيدو)، وموقعة مشرعة لوضع شخصية «كاترين» (ماريون كوتيار)، زوجة الشقيق البكر، ضمن دائرة ازدراء مُخجل.
«أفلم» دولون المسرحية الأصلية من باب نادر يمكن نعته بمشهديات المواربات التي بدأها في مفتتح شريطه، حيث طلّت كاميرا أندريه توربان على محيط البيت، وصوّرت لقاءات عائلته ومناكفاتهم عبر فرجات ستائر نوافذ وثلمات أبواب وخلل أعراش حديقة وغيرها، لعل أكثرها عنفواناً ما تألّق في مشهد الأم وهي تُغوي ابنها الزائر الى شمّ عطرها، لينتهيا بعناق ملائكي. نراه فيه، وهو ينظر من فوق كتف والدته، نحو نور قدسيّ عبر ستارة يحرّكها نسيم خفيف، إشارة الى نداء موته المقبل. جعلت هذه اللازمات الحسّية من مشاهديها أشبه بمتلصصين على تفاصيل فاجعة يتراكم سُخامها على جدران وضمائر وأقدار (يردد لوي «أنه سيّد نفسه»)، فيما يكون رمادها أشبه بفراش موت مجازي لبطل عائد، فشل في تحقيق ميثاقه مع آخرين.
في لحظة اتخاذه قرار رحيله/ غيابه المتجدّد، يشهد «لوي» فعلاً سحرياً لعصفور دوري ينطلق طائراً من قلب ساعة حائط قديمة لحظة رنين ناقوسها، قبل أن يسقط صريعاً إثر ارتطامه بحائط غرفة معتمة. لن يكون أمام دولون سوى تثبيت آخر مشهد في فيلمه على جثة الطائر وهو يحتضر. فيوم قيامة، يستغرق 97 دقيقة سينمائية، لا يرتهن بحسابات تطويبات، وإنما بنقاوة قلب تقود المرء نحو ذهن خالص وهادئ، يعي فناءه ولا يخشاه. هذا تماماً ما توصل اليه «لوي» بتصبّر وقلّة كلام ودراية. فلن تردع دموع سوزان وانكسار روحها، ولا مرارات كاترين وبؤسها، ولا جبروت إنتوان وكابوسيته، ولا لباقات الأم مارتن وهمتها بجماعية أسرتها، من وقوع ساعة دينونة يكون فيها المؤلف المسرحي بطلاً بلا منازع، يطلق إشارة إنذار عنوانها إن العقاب آتٍ.

 

السفير

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى