عبدالكريم الساعدي يرتدي سواد الليل في ‘قرابين البحر’

قاسم ماضي

يرتدي سواد الليل عند ثلاثة شواهد، غازلت غربة المنافي ذات يوم في قصة “قرابين البحر” للقاص عبدالكريم الساعدي.

تتأجج فينا كل مفردة من مفرداته التي يبعثها لنا عبر سرده “الحكي” القصير والممتع، وهو يقتنص لحظات الوعي الممكن، التي خيمت على شعبه “هنا تجثم فوق الثرى توابيت حجرية”، فتعود تتساقط علينا من جديد، وتدخلنا في ذات الأزمة التي تحيطه، عبر فعالية التشخيص التي عودنا عليها الساعدي في قصصه المنشورة “يغمض عينيه رهبة”.

ونحن الفارون من ملاحم الموت والدمار، لا نزال نحمل هذه المكابدات، يلاحقنا بشخوصه التي نتنفسها وهو يكتبها على الورق من لحم ودم، وهي أزمة مجتمع تكمن المأساة في جوانحهم “يملأ كأس الحزن نحيباً”.

ورغم عمق المأساة في واقعية الساعدي ظل يدور في فلك الزمان وهو يحمل مشعله الضوئي عبر أدوات لغوية، مفعمة بالأمل، يخضعها من جديد لبراعة الخلق الفني، ومن خلال نوافذ كثيرة، فيما يتعلق بالهروب من بلداننا، والجراح والدمار والموت، وفيها من المتخيل الكثير والواقعي، ليقول لنا بصدق إنه يرى القارئ شخصية القصة على حقيقتها، وهو يؤدي الساعدي ” ببراعة وظيفة امتساخ الزمن، من خلال سرعته في وصف الأحداث التي تعج في مخيلته السردية، وهو يهدف إلى إحداث تأثير مهيمن على القارئ.

“الموت يتدلى من تحت خوافي القيامة”

وهو السائح والعابر للحدود، بقوة إلى مضمون الشخصية وإلى بعديها الزماني والمكاني ويمتلك عناصر الدراما التي اشترطت عليه عبر أدوات القصة، وينضج أفكاره على نار هادئة، بالتالي يكثف اللحظات أمام زمن عادي ورتيب، عبر نسيج لغوي متماسك يجعلنا نتشابك معه ونتيه في بلاهة الصمت.

“كل شيء هنا يتغوط دخاناً وحرائق، يتنفس قلقاً وتيهاً”.

وهو يسأل عن المهاجرين من أبناء وطنه وأنا منهم، وهم في “تلفات” الدنيا، وكأنه واحد منهم، أليس هو من حاملي الرسالة وهو يزاوج بين التاريخ والحاضر “سأدحر الأمس بغدِ أفضل”.

وهو يغوص في عالمه المترامي الأطراف، شخوصه النائمة، والحالمة في ذواتنا التي لا تنفكُ منا بسبب تراكم الأزمات، وهي القلقة والباحثة عن نقطة ضوء، وهذه الشخوص العليلة التي يظهرها في مختبره السردي، محاولاً انتشالها من أمراضها المزمنة ومنها، القهر والعتمة، والحروب التي لا تنفك من ملازمتها لهذا الوطن، وتحاصرنا في اللحظات الصعبة، حتى تلامسنا نحن البعيدين بالمسافات عن الوطن، والوطن القريب إلينا من حبل الوريد، نتنفسه ُوهو المذبوح من قبل الديناصورات المعلقة في سمائه منذ ُالخليقة إلى يومنا هذا.

“تقذف الحالمين في عرض البحر”.

والساعدي بمعوله الأدبي يستصرخ الضمائر النائمة التي أرادات أن تجعل كل إراداتها فوق نفس الفقراء والطامحين إلى الحرية.

يقول الناقد الكبير فاضل ثامر راحت القصة القصيرة تبحث عن شعريتها، والتي تعني هنا الآليات التي تعتمدها في صياغة الخطاب السردي وعناصره الدلالية والسيميائية المختلفة، للارتقاء به جمالياً وتأويلياً إلى مستويات جديدة، تجعله قادراُ على إشراك القارئ في عملية استنطاق المعنى.

“هنا تجثم فوق الثرى توابيت حجرية، تقطر شغفاً لمن تقاذفتهم أمواج العتمة وظلال الحروب العديدة”.

وهو يشخص العلل عبر أدوات كثيرة مكونة تفضي به إلى خلق حيرة وتعجب من شيء مألوف او غير مألوف، فالقاص الساعدي يعطينا نفسًا شعرياً لعنوان قصته التي أراد لها الذهول والحيرة.

“الهاربون من جادة الجحيم يتدحرجون من جهة إلى أخرى”.

وهو لا يشغله غير هدف التخلص من قبضة الظلم والإضطهاد التي نزلت على شعبه، وتلك الصور التي يوظفها لنا بلايانا فيها من جيل إلى جيل آخر، وهو لم يفقد الأمل في كل قصة من قصصه التي كتبها، ليستصرخ هذا العالم، والكاتب الساعدي يبحث عن طريق الخلاص وهو مازال يعيش غريباً في وطنه.

“الأبصار شاخصة إلى السماء”.

يقول عنه الناقد صالح هشام أعتقد أن القاص الساعدي يحفظ وصية غارسيا ماركيز عن ظهر قلب، فهو في قرارة نفسه يكتب الأفضل على الإطلاق، وفي النهاية يبقى له من هذه الإرادة شيء ما يجعله نصوصه مميزة جداً “للبحر قربان إذا ما عبرنا”.

إن خلق حالة التتابع المتوازنة في الشخصية في قصته “قرابين البحر” المنشورة في مجلة الأديب الصادرة عن الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق، وهي مجلة فصلية، لهو من أنجع الوسائل للوصول إلى تحديد مناسب للبعدين بين الشخصية وكاتبها، وسبق أن أصدر العديد من المجاميع القصصية نذكر منها “ما بعد الخريف” وغيرها من المجاميع.

 

(ميدل ايست اونلاين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى