حسن سامي يوسف: كل الذين أحبهم نهبوا رقادي واستراحوا!

سامر محمد اسماعيل

حسن سامي يوسف السيناريست الفلسطيني السوري، اضطر إلى أن ينزح مرتين هذه المرة في سوريا نفسها. يرى ان المستقبل يحمل اسرائيلات جديدة. يقول عن الحرب السورية: أين كانت هذه القمامة؟ يتعب من قراءة الرواية الجديدة من كلامها الكثير، يعيش اليوم في فندق «سائح في بلده».

غادر السيناريست الفلسطيني – السوري منزله في ضاحية صحنايا عام 2012؛ بعد أن تحول المكان إلى ما يشبه خط تماس مباشر للقتال الدائر على أطراف مدينة داريا؛ وقتذاك لجأ الرجل للإقامة في بيت شقيقه الكاتب الراحل (يوسف اليوسف) في مخيم اليرموك، المكان الذي سينزح منه أيضاً بعد احتدام المعارك في شوراعه. يصفه (حسن سامي اليوسف – 1945) في الذكرى الثامنة والستين لنكبة 1948 مستذكراً قصة لجوئه الأول بعد الهزيمة: «كان لجوءنا أنا وأسرتي في البداية إلى لبنان ومنه إلى سوريا، عندها كنت لا أزال طفلاً رضيعاً، إنما أثار هذا اللجوء تمرداً بي منذ الطفولة فالمراهقة فالشباب، أنا الفلسطيني والفلسطيني – السوري يمكن أن أقول إن خسائري صارت مضاعفة اليوم، مثلي مثل ربع مليون فلسطيني هجّروا من بيوتهم في المخيم، لذلك، الشتات الفلسطيني اليوم أخذ بَعدَ خرابِ (اليرموك) منحىً آخر، دعني أسميه التيه الفلسطيني، فمأساة مخيم اليرموك كأكبر مدينة فلسطينية في العالم؛ أحال الفلسطيني من لاجئ إلى فلسطيني – سوري منكوب، وبأبشع الأشكال وأقصاها، إذ إن هناك أمورا كثيرة فقدها هذا الإنسان أولها لقمة عيشه، و ليس آخرها هجرته مرةً أخرى في جهات الأرض الأربع، هذا الإرث من النكبة امتد من الجيل الثاني والثالث وها هو يخوض في لجة البحار وخيام الأمم المتحدة مع أبناء الجيل الرابع».
لم يوثّق الأدباء الفلسطينيون كما يجب لمأساة المخيم، يقول صاحب رواية (هموم الدرامة): «لا في المسرح ولا في السينما ولا حتى في الرواية، فمخيم اليرموك عاصمة الشتات الفلسطيني، ليست محض جغرافيا لحي يقع جنوب دمشق، بل هو تاريخ النكبات الكبرى وبداية النكبة العربية، لماذا الكبرى؟ لأنه كان الخطأ التراجيدي الذي ارتكبه العرب منذ أن صارت (إسرائيل) تقبع في قلب الجغرافيا العربية تماماً. أكاد لا أصدق كيف سُمح بذلك. هذه قصة طويلة، لكن نحن الكتّاب الفلسطينيون لم نكتب عن هذا التاريخ شيئاً يستحق الذكر».
قضى الفتى الصغير أيام الصبا طالباً مبرزاً في مدارس الأونروا؛ لكنه سيلتقي أثناء الدراسة برجل لن ينساه حتى اليوم: «غسان كنفاني، أتذكره اليوم عندما درّسني في صف الرابع الابتدائي في مدرسة (دير ياسين) بحي الأمين الدمشقي، سنة دراسية كاملة، بعدها لم أره قط، كان معلم صف يدرّسنا كل المواد وكانت مادة واحدة يبتدأ اليوم الدراسي بها فيكتب على اللوح: (كي لا ننسى)، ثم يرسم خارطة فلسطين، يحدثنا عن قراها ومدنها وطبيعتها ومعالمها التاريخية، لقد كان يتصور أن مواد مثل الحساب والعلوم والإملاء ليست شيئاً أمام المادة الرئيسية بالنسبة له ألا وهي فلسطين؛ كان يستفز فينا ذاكرتنا عن (أرض البرتقال الحزين)، لقد كتبتُ عن هذه المرحلة في روايتي (الفلسطيني) فكنفاني لم يكن التعليم هدفه، ولهذا علمني أن (واحد زائد واحد يساوي فلسطين)».
حاز بعدها (اليوسف) على شهادة الثانوية العامة من مدرسة (عبد الرحمن الكواكبي) بدمشق؛ ليعمل كممثل مع فرقة (المسرح الوطني الفلسطيني) الذي ساهم في تأسيسها؛ ومن ثم ليسافر عام 1968 إلى (الاتحاد السوفياتي) السابق ببعثة دراسية على حساب (وزارة الثقافة السورية) لتعلم كتابة السيناريو هناك، وليتخرج عام 1973 من معهد (فغيك) حاملاً شهادة الماجستير.
رحلة سيريالية
الرحلة التي قطعها الشاب الصغير من مخيم اليرموك إلى موسكو كانت سريالية، كما يصفها، ففي الجانب الأكاديمي كان معهد موسكو من أكبر معاهد السينما في العالم، إلا أن الشاب الفلسطيني سيلاقي هناك أستاذه اليهودي (مانيافيتش) الذي يخبرنا بأنه كتب عنه في روايته الجديدة (عتبة الألم – قيد الطبع): «كان معلّماً بالمعنى الحرفي للكلمة، لم يكن إسرائيلياً ولا يوجد أي دلالة على إسرائيليته، مواجهة الأنا والآخر هنا كنت تجدها عند الطلاب اليهود وعلاقتهم بنا كعرب فلسطينيين».
بعد إنهائه لرحلة الدراسة الموسكوفية عاد صاحب (رسالة إلى فاطمة) إلى العاصمة السورية ليعمل كرئيس للجنة النصوص في (المؤسسة العامة للسينما)؛ الجهة التي سيكتب لها وللقطاع الخاص العديد من الأفلام كان أبرزها: «قتل عن طريق التسلسل، الاتجاه المعاكس، غابة الذئاب، يوم في حياة طفل، بقايا صور) هذه الأشرطة التي حققها كل من المخرج الراحل محمد شاهين والمخرج سمير ذكرى سوف تكون التجارب شبه الوحيدة في مجال الكتابة للفن السابع؛ لينصرف (اليوسف) بعدها للتأسيس لما عُرف في ما بعد بالواقعية الجديدة في الأعمال التلفزيونية التي اشتقها من مكابدات طويلة مع الحياة وقراءة عميقة للواقع السوري كان أبرزها: (أيامنا الحلوة، نساء صغيرات، الغفران، زمن العار، أسرار المدينة) مشكلاً مع رفيق دربه السيناريست (نجيب نصير) ورشة كتابة مفتوحة على هواجس المستضعَفين وآلامهم، لكن لماذا توقف عن كتابة السينما: «هذا ملف كبير لا أريد أن أفتحه الآن؛ التلفزيون جعلني موجود في وجدان الناس، في السينما لم أُصِب هذا التوفيق؟ هل الأسباب موضوعية؟ ربما هل السبب يكمن بي؟ لا أعرف بالضبط، هذا جعلني أتحمس أكثر باتجاه ما سأكون نافعاً فيه».
لكن لماذا توقفت القريحة الفلسطينية عند أسماء بعينها من الأدباء؟ يجيب اليوسف: «أسماء كثيرة توقف بعدها الأدب الفلسطيني الذي كتبه كنفاني وسميرة عزام وجبرا إبراهيم جبرا ومحمود درويش، وصولاً إلى إبراهيم نصر الله، لكن لا يخلو الأمر من أسماء جديدة في الداخل والشتات، أعتقد أن تعاقب الزمن يخفّف من عمق المعالجة الأدبية للمأساة الفلسطينية، فتتعامل معها كوقائع لا مع الجوهر، وهذا ما ميز غسان كنفاني، لكن دعني أقول إن أهم أيقونة ثقافية بعد النكبة كانت ناجي العلي؛ الشخصية الأكثر عمقاً في التعاطي مع هذه المأساة لا سيما بما نشره من رسومات في جريدة «السفير» قبل 1982؛ أجل لقد تنبأ (العلي) بكل ما سيحدث وكأنه كان يوحى إليه. موهبته الساحرة ومخيلته وإنسانيته العالية والتزامه المطلق بقضايا الفقراء؛ جعلته ينجز (حنظلة)؛ هذه الشخصية المتفرّدة التي ما زالت تدير ظهرها لنا ولا تريد أن ترى كل هذه القباحات».
(فلسطينات) كثيرة تتوالد اليوم في البلاد العربية، فيما تتكاثر حولها (إسرائيلات) من كل لون وشكل. يقول الكاتب الفلسطيني – السوري المولود قرب بحيرة طبرية: «عندما أتأمل الحرب السورية أتساءل: أين كانت كل هذه القمامة؟ أين كنا نخبئها؟ انظر إلى عمليات الابتزاز والإذلال والوحشية بالتعامل مع لقمة الفقير اليوم، عندما لا تفكر في الآخر تكون قد بدأت تفقد إنسانيتك، فالمفروض أن تكون هذه الكارثة بمثابة امتحان إنساني، لكن إلى متى سنرسب في هذا الامتحان؟».
(الندم) عنوان رئيس في تطلعات صاحب (بوابة الجنة) الذي أنجز مؤخراً سيناريو تلفزيونيا بالاسم نفسه حققه مؤخراً المخرج (الليث حجو)؛ لكن على ماذا الندم؟ يجيب: «كل شيء يبعث لدي على الندم، فممكن أن تندم على حياة غابرة، ويمكن لك أن تندم ــ وهذا ما أخشاه ــ على بلاد غابرة. الإسرائيلات التي أخشى ما أخشاه أن تصبح أمراً واقعاً؛ قلتُ لك إنني لستُ منجّماً كي أعرف إلى أين الأمور ذاهبة؛ فأنا لستُ محللاً عسكرياً ولا سياسياً ولا أريد أن أكون؛ نحن كلنا في نكبة واحدة الآن؛ بل نحن في مجموعة نكبات؛ كثرة اللاعبين العسكريين والسياسيين وكثرة الأسلحة وتداخلها؛ كل هذا لا يبشّر بالخير، خذ أيضاً الانهيار الاقتصادي المتفاقم إلى مزيد من التردي، فالليرة السورية فقدت قيمتها 12 مرة منذ اندلاع الحرب، وهناك جوع قادم أو بدأ. برأيي الشخصي أقول مجدداً: فتّش عن إسرائيل».
رواية السيناريو
السيناريو ترك بصمته على الرواية التي كتبها (يوسف)، فإنجازه لعشرات السيناريوهات التلفزيونية التي اقتربت من حياة الناس ومعيشهم اليومي، لم تجعله ينصرف عن كتابة (ديوان العرب) المعاصر: «هناك مشكلة في الأدب العربي وهي عامة، مشكلة تجعلني أشعر بالإرهاق وأنا أقرأ للعديد من الروائيين الجدد؛ إذ إن هناك كمّا كبيرا من الإنشاء، الوصف الذي ليس فيه جملة مفيدة، على عكس السيناريو الذي لا يمكن أن تقول فيه إلا الجمل المفيدة، سواء كانت فعلية أو اسمية. طبعاً، هذا لا يعني أن تتبنى شيئا على حساب اللغة، اللغة أيضاً لها جمالياتها، لكن اللغة المفيدة وليست الشطحات، كتابة السيناريو علمتني المنطق، فالسيناريو هو فن المنطق وهو فلسفة وعلم نفس أيضاً؛ فأنت ككاتب سيناريو تكون دائماً أمام تحديات هائلة، فالكاميرا يمكن أن تصور حشداً هائلاً من البشر في لحظة واحدة، لكنها لا تستطيع أن تنفذ إلى روح رجل واحد من هذا الحشد. حقيقة لا أستمتع كثيراً بقراءة الرواية العربية الجديدة، وهذا لا يعني خلو الساحة الأدبية من روايات جيدة، ما أريد قوله أنني لم أكتب يوماً للجوائز، ولم أتقدم لجائزة ولا مرة في حياتي، ولهذا أستخدم المشهد في الرواية، ليس بمفهوم السيناريو، وإنما بتقنية الكتابة ذاتها؛ فشخصياً لا أكتب الأحداث دائماً في زمن المضارع، بل أحياناً أكتب بصيغة الماضي أو الماضي المستمر، وهذا متاح في علم السيناريو. أظن أن المتاح الوحيد هو تجربتك؛ ليست المشكلة هنا، المشكلة عندما لا تستطيع ككاتب أن تبدأ مشهداً أو لا تعرف كيف تنهيه، لا تعرف شخصياتك، لا تستطيع بناء مشهد، أما الكارثة فهي ألا تكون لديك قصة لترويها في السيناريو أو الرواية التي تكتبها».
ما زال صاحب (الزورق) حتى اليوم يحتفظ بالوثائق التي تثبت ملكيته بالأرض التي ورثها عن أبيه في قريته (لوبية): «هي وثائق مكتوبة باللغات الثلاث العربية والإنكليزية والعبرية، وهناك نسخة منها في وزارة المستعمرات البريطانية، وهذه الوزارة ممكن أن تتلاعب بهذه المستندات التي تعود إلى عام 1947؛ لكن ما أعرفه أن أبي وزع الأرض عليّ أنا وأخوتي يوسف ومحمود وحسن وهذه الأرض أرضي كانت وستبقى».
غرفة في فندق
يقيم اليوم (يوسف) في فندق وسط العاصمة السورية بعد نزوحات متعددة: «أبشع شيء أشعر به في هذا الفندق هو الإحساس الآني بأنني سائح في مدينتي، هنا تفتقد للعلاقات العائلية والإنسانية، بالتالي تعيش علاقات سياحية… غرفة ومطعم وموعد طارئ؛ فالأصدقاء رحلوا؛ (كل الذين أحبهم نهبوا رقادي واستراحوا) ـ يصمت ـ المواعيد غالباً ما تكون في بهو هذا الفندق، وحركتك محدودة في دائرة نصف قطرها واحد كلم مربع، بشكل من الأشكال أنت في إقامة جبرية ولست في سياحة، فإحساسك يقول لكَ إن كل شيء عابر، وإن هذا العابر ليس عابراً، فالآفاق مسدودة وليس هناك حلول، وهذا مرعب، ساعتها ستفكر بالهجرة، لكن لماذا أهاجر؟ كي أسكن في غرفة أخرى في فندق آخر ومدينة أخرى؟ الشيء الوحيد الذي يعزيني هو قدرتي على الكتابة وإنجازي لروايتي الجديدة».

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى