الهوية الاستهلاكية للمجتمع الكويتي في رواية «قطط إنستغرام» لباسمة العنزي

سعاد العنزي

تتطرق باسمة العنزي إلى الفساد الذي بدأ يستشري في المجتمع الكويتي في روايتيها «حذاء أسود على الرصيف»، و«قطط إنستغرام»، إذ تطرح في الرواية الأولى فكرة الاستعداد لدخول سلم الفساد، الذي هو استعداد متوارث عند الأفراد في أي مجتمع، كما يصفه الفيلسوف الفرنسي بيير بورديو من خلال نظرية التطبيع وتبادل أدوار الفساد المتوارث في أي شبكة اجتماعية بشكل نمطي ثابت عبر أجيال متعاقبة.
هذا النموذج للفساد المجتمعي المقدم في رواية «حذاء أسود على الرصيف» سيتمدد بشكل أوسع في الرواية الثانية «قطط إنستغرام» التي يتضح من عنوانها مدى ارتباطها بمعطيات الثقافة التكنولوجية الراهنة وتصوير دقيق لهوية المجتمع الكويتي الحالية كما هي معروضة في وسائل التواصل الاجتماعي.
رواية «قطط إنستغرام» من أكثر الروايات اقترابا من الهوية الاجتماعية الكويتية الآنية، فقد قامت الكاتبة باسمة ولأول مرة بالاقتراب بعمق من نبض المجتمع بشكل موسع وتفاصيل الحياة اليومية للمجتمع الكويتي أصبحت المدار الحكائي لهذه الرواية، التي تنطلق من الواقعية التسجيلية والنقدية بأخبار كثيرة وتفاصيل أكثر عن يوميات المجتمع الكويتي، متمثلا في عدة سيدات يمثلن شرائح متعددة للكويت. أحلام وصديقاتها هن شخصيات الرواية متوزعات بين الأدوار الرئيسية والثانوية، وكل منهن لها دلالتها الخاصة في تشكيل الهوية المجتمعية واختلافاتها الطفيفة، التي تقوم الساردة/ البطلة وصوت المؤلفة الضمني في الرواية بنقد هذه السلوكيات بشكل علني ومباشر، من دون أن يؤثر على موضوعيتها، لأنها اختارت لها دور الناقدة الاجتماعية والسياسية التي تقوم بتحليل الواقع ونقده بشكل جدي.
الرواية تصور سلوكيات المجتمع الكويتي الغارق في الماديات والاستهلاك بشكل كبير من دون وعي جدي بهشاشة واقعه الاجتماعي اليوم بحيث أن: «المجوهرات التي أصبحت موضة رغم سعرها المرتفع، لفتت انتباه الكل من طالبات الجامعة والموظفات وسيدات المجتمع، يتسابقن للحصول على قطعة منها. تعرف أحلام أن خاتم مضاوي الأبيض أصلي، وكذلك قرطي مريم، بينما قلادة نورية ذات الفص الأخضر من المجموعة نفسها اشترتها من صائغ مجوهرات معروف في منطقة الشويخ يجيد تقليد الماركات العالمية وبيعها بسعر أقل».
وهذا الاستهلاك الاستعراضي حقيقة يعبر عن نظرة الشعب للسعادة التي تتحقق بالاستهلاك الاستعراضي إذ يؤكد أدورنو: «الإنسان يرى أنه من غير الممكن فصل السعادة عن الاستهلاك الاستعراضي». فأحلام سيدة أربعينية ذات حسب ونسب وماض ثري تحاول أن تساير الزمن بصورة اجتماعية مؤرشفة من ماضيها الجميل، حيث الثراء الحقيقي، وقت ندرة لبس الماركة، والمجوهرات، تتخلى عن السمعة والصيت اللذين ورثتهما عن أبيها، لترتبط بمنصور لافي ذلك التاجر المرابي، بسبب رغبتها الحقيقية في أن تعيش وفق نسق حياتها في الماضي، وهذا يعني أن علاقة سيدة مثل أحلام بالماضي هي مجرد علاقة مادية محضة، لذا تنازلت عن فكرة المحافظة على اسم والدها العريق والمعروف بأخلاقه، ولوثته بالارتباط بإنسان فاسد. ولهذا حقيقة دلالة عميقة في الإشارة إلى تخلخل القيم الأصيلة في المجتمع وتحولها وانحرافها، بحيث يصبح من السهل الاستغناء عنها في سبيل العيش في حياة مادية مترفة.
وهذه تقودنا إلى الحديث عن شخصية منصور الذي يمثل طبقة من الأثرياء صعدت بسرعة البرق، بسبب تصرفاتها غير الأخلاقية ورشوتها وفسادها، مما يغطي شريحة من المجتمع ظهرت مؤخرا بثرائها غير المبرر، والأدهى من هذا أن المجتمع يعلم بتفاصيل هذا الثراء الفاحش، ولكنه لا يتورع عن التعامل مع هذه الشخصيات ما دامت تحقق لها مصالحها المادية الملموسة، ما يعني أن المجتمع يفكر في تحقيق الغاية من دون الالتفات إلى نوعية هذه الوسيلة، صالحة أم فاسدة أخلاقية أم غير أخلاقية. وهو ما يعبر بشكل صريح عن الهوية الأخلاقية للمجتمع الكويتي كما هو معروض في الرواية. فمن مفاهيم الهوية أيضا ما يستند إلى مجموعة الأخلاق التي تنظم سلوك الفرد. ومن أسوأ نتائج هذه الثقافة الفاسدة هو أن شخصيات مثل منصور لافي تنجح اقتصاديا وسياسيا في صعود قبة البرلمان وتمثيل المجتمع، وهو بالطبع مكان يفترض فيه أن من يصعد إليه يكون على قدر من الأخلاق والمبادئ والعلم الذي يؤهله لقيادة أمة. إذ ترصد الساردة: «يا للسخرية! منصور المرابي خارج السجن يعد لحملته الانتخابية، ويتفاوض لشراء برج (السراب)، وحسين الشاب المؤدب الذي انزلق في درب القروض فتورط، مجرم مخدرات يقضي عقوبة مدتها عشر سنوات في السجن المركزي!».
ومثل هذا الصعود يقود أيضا إلى معضلة أسوأ بكثير من الأولى، وهي أن قضية الديمقراطية تتطلب شعبا واعيا قادرا على ممارسة الديمقراطية والاختيار المناسب لمن يمثله، فمن يمثل الشعب في البرلمان يعني أن يقود البلد داخليا وخارجيا، فلا بد أن يكون هذا ممتلكا للوعي السياسي الكافي للدور الريادي الذي يقوم به، كما يعني أن يكون حاصلا على مؤهل علمي يجعله ثقة من الثقات، والأهم من هذا وذاك يكون حسن السير والسلوك ليكون أمينا على استلام شؤون البلاد وإدارتها بشكل جيد، وإلا هذا يعني سقوطا وتراجعا في الدولة على وجه الخصوص، إن كثرت عينات مثل هؤلاء الأشخاص الفاسدين، وكثر من يشجعهم ويطبل لهم من أفراد الشعب الكويتي، الذي بات يشكل مجتمعا متخاذلا عن قضايا وجوده وقيمه التي تشكل هويته، ويمرر مرشحين فاسدين بجهل منهم أو تواطؤ ضمني بينهم وبين هذا المرشح الفاسد، من أجل تبادل الخدمات والمصالح المشتركة. الرواية كذلك تعرض لتأثير وسائل التواصل الاجتماعي على الشعب الكويتي من أكثر من جانب، فأول هذه النقاط:
1 ـ سهولة اندماج المجتمع مع وسائل التواصل الاجتماعي: «إنستغرام» من ثم «سناب جات» من دون أدنى قيود، ما يقود لمفهوم مرونة المجتمع الكويتي في الاندماج مع معطيات الحضارة التقنية، مع وجود أفكار تقليدية صلبة تخص موضوعات الشرف والعقيدة، وهنا يكمن التناقض بين الشكل والمضمون، بين المادة والروح: «قليل من يتابع الأرواح الجميلة المغموسة بمحبرة الأدب، في الوقت الذي تحصد فيه (الفاشينستا) ذات السيقان الطويلة والعدسات الملونة والشفاه الممتلئة (لولو بريتي) استحسان الآلاف، كل صورة تعرضها تلقى صدى، ولو كانت لقنينة مياه فارغة ملقاة قرب إطار سيارتها الرياضية».
2- إن وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت مرآة عاكسة لسطحية المجتمع الكويتي وإغراقه في الماديات، وحرصه على الانغماس في ثقافة الاستهلاك من دون مساءلة جادة في نمط هذه الحياة الجديدة، وما شخصيات الرواية إلا جانب منها. أما الجانب الآخر الذي تغطيه الرواية بنجاح أيضا فهو تصوير هوية الشعب الفضولي والتابع لما يلقى من أخبار في وسائل التواصل الاجتماعي صحيحة أم كاذبة، ذلك الفضول المجتمعي الهش الذي ينبني على الثرثرة والقضايا السطحية، بدلا من الفضول المعرفي الذي يؤسس ثقافة المجتمعات الناجحة: «صرنا فضوليين جدا وتابعين، نراقب الأغراب، ونظن أننا نعرفهم جيدا! نتكلم عنهم ونتبرع في الترويج لهم، نتبنى مواقفهم ونردد نكاتهم وتعليقاتهم وأكاذيبهم، نتسلى بهم كدمى متحدثة، ما إن نسأم منها حتى نلقيها في صندوق التجاهل».
3- إن وسائل التواصل الاجتماعي وسيلة بديلة للدعاية والتأثير على الآخرين، واستقاء الأخبار، ما يعني تنويع وسائل المعرفة بين رسمية وغير رسمية، وإمكانية تقديم المعلومة حتى ولو حجبتها وسائل الإعلام الرسمية، ولكن هذا يقود إلى إشكاليات متعددة، تكمن في فوضى تقديم المعلومات، وعدم مصداقية البعض، مما يعني الاختراع والتلفيق والكذب من جانب، ونشر معلومات من غير الأخلاقي نشرها بسبب انعدام الوعي الأخلاقي الكافي عند من يملكها. وهذه الرؤية مرتبطة بتحليل المنظرين النقديين الذين «لم يروا في الثقافة الحديثة سوى الخداع والتلاعب، وفي البشر سوى سذج تخدعهم المنظومة وتستغفلهم».
من أهم الأمثلة على ذلك محاولة الفريق الإعلامي لمنصور لافي التعاقد مع صاحبة موقع «قطط إنستغرام»، لعمل دعاية انتخابية له، من باب تقديم عمليات تجميلية لتاريخ منصور لافي المليء بالنقاط السوداء، مما يفتح باب العديد من الأسئلة على ما تروجه وسائل التواصل الاجتماعي من مصداقية بعض الشخصيات، أو زيفها. الجميل أنه رغم هذه النظرة النقدية الواقعية للمجتمع المتفسخ في قيمه ومبادئه تصر بطلة إنستغرام على رفض عرض منصور لافي المغري انتصارا لمبادئها وقيمها: «سبايس هل ترضى أن تكون مفتاحا انتخابيا لكلب أجرب؟»، وهذا أمر يحسب للكاتبة التي أرادت أن تخلق شخصيات قادرة على الفعل الإيجابي رغم سلبية معطيات الحياة الاجتماعية المعاصرة.
فكان البديل هو وكالة (هابي تايم) التي ستقوم بالترويج لمنصور لافي ما دام قادرا على الدفع: «وكالة (هابي تايم) تعتمد على حقيقة أننا في مجتمع استهلاكي نصف أفراده تحت سن العشرين، نجومها الثلاثون أغلبهم شباب من الجنسين لا تتعدى أعمارهم الخامسة والثلاثين، يملكون ما هو مشترك رغم اختلاف شخصياتهم، استعدادهم للتضحية بأشياء كثيرة لقاء الشهرة والمال».
حقيقة مثلما كانت غاية أدورنو في نقده للثقافة الجماهيرية «أن يحرض قراءه على تحدي الوضع القائم، وليس على أن يذعنوا لذلك الوضع»، أرى باسمة العنزي تحــرض قراءها على الالتفات إلى ما آلت إليه الهوية الكويتية وبالتالي التفكير الجاد في تغييرها.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى