فينومينولوجيا التخييل في ديوان «العرائس» للمغربي رشيد العلوي

مصطفى غلمان

يمكن أن يستحيل الشعر من مجرد خبرة حدسية، إلى قناعات أو أنماط إنسانية، الغاية منها إدراك الماهيات، وهي بالطبع أحد الأهداف الرئيسة للفينومينولوجيا أو فن التأويل.
لقد كمن هوسرل لهذه الماهية فجعلها مبدأ للتوقف عن الحكم ووضع العالم المكاني الزماني بين أقواس، وعدم اعتماد الاعتقاد الطبيعي لهذا العالم، والتوقف عن اتخاذ أي موقف إثبات أو نفي إزاء وجود الموضوعات.
ومن ثمة فالحقيقة الشعرية هي دلالة على فرع من ظاهرة إبداعية لا يصلها إلا من تحققت فيه قوة الإدراك وسمت به مفاهيم الوجود، من حيث هو فن للتأويل، بتسويغ وجود استفهامي، أو بالأحرى كينونة للفهم، لا كتصور نفسي، وإنما كتصوير فينومينولوجي، يراعي خصوصية افتتان الشاعر بذاته، بالانفتاح عليها وعلى وجوبها ووجودها.
ربما تتسق هذه المفهومية المتجاورة مع توترات التجربة الشعرية للعديد من الأصوات الشعرية، التي تستوي حاضنتها المرجعية، مع دلالاتها الفنية والجمالية، واستخدامها الخاص للغة بشكل نوعي ومثير للرؤية والرائي، حيث يندغم التأويل للأشياء في استبطان أفعواني لتكوير الذات وتسريبها روحا وجدلا للمعنى، لا تساق على مضض ولا تستباح في صخب ولا نصب.
وهي معرفة تستبين حججها من تأويل فني مخادع، تستعمل فيه كل الأشكال التعبيرية الشعرية. وهو ما يجعل مرسولها جسدا لقيمة مضافة وفعلا في ديمومته المستعارة المتحركة.
يمكن التوكيد نظريا على استتباب هذه الفورة الهادرة في تجربة الشاعر المجــــيد رشــيد العلوي، في المنذور منها للتهاطل بقطعية بصيرة الروح وبصرها وسحرها، رقراقة بالنغم الشعري، يسري في مزن النظر كما حدقة تعلو ثم تنخفض، تتردى ثم تحجب الضياء عن ركامها، تمارس غواية التخفي خلف سطور لا تنجلي في اللحظة الحاسمة. وفوق كل ذلك تكمن الحيوات فيها كأروقة لالتقاط أنفاس الحقيقة.
لغة ديوان «العرائس» لا تكتفي بالتعابير الذهنية، ولا تحتوي شذراتها المشرعة على قوة الادراك ونفاذه، بالقدرة نفسها التي تذهب بعيدا لاسترداد حدود التباعد بين الصورة والعقل، بين الواقعي البراغماتي واليوتوبي الحالم العالق في الدرج الأعلى للقيم والمبادئ.
إن اغترابا جوانيا أكثر قابلية وجنوحا للاسترجاع، هو مكمن الإضمار الفينومينولوجي الذي أنهك هاجس شاعرنا العلوي، وجعله كأي محيط لاشتعال حروب نفسية بينية، بين الذات والوجود أحيانا:

أضيف المرايا على بعضها
وأنظر ما صار في قبضها
تفيض المرايا على نفسها
وترسم ليلا على حسها
«قصيدة لقاء المرايا»
وفي سياق هذا التباعد بين الذات والكمون يستأثر القلق الوجودي الشعري في نصوص العرائس، مستعيدة كتلا من بنى التحامل على المعنى، من حيث التراكم الواقع في صيرورة الزمن وتوهجه، تواتر الانتقال من تجربة لأخرى:
أمسكت قنديل الفضول
وولجت أعتاب الخفاء
متدحرجا بين الفصول
هل من سبيل في فضاء؟
تومي الإثارة ها هنا
وتعود سافرة هنا
موج مضيء يختبي
في نقطة بين الفصوص
يتلو تلاوين النصوص
بل يجتبي يوما سألت عن المحار
«قصيدة قنديل»

يكتسي ديوان «العرائس» للشاعر العلوي من وجهة نظري ميزة خاصة في تشكيل الرؤية والتعبير عنها، حيث تقوم كل قصائده على أزمة وجود وفكر، استنطاق لأنا الآخر عبر استيهام الدوال وتحويلها من مجرد إيقاع فاعل للنص داخلا، إلى تفكيك الواقع بشقيه الشخصي والمجتمعي، وهو ما يؤصل لدى الشاعر ثنائيات أبدية كالخير والشر، العدم والوجود، الأسطورة والواقع، الفراغ والزمان، المعنى واللامعنى وروافد ثقافية أخرى يصير معها القارئ مترددا في الحكم والإذعان للمعقول:

دخلنا مع القبة الكبرى
أنا والشمس واليمنى مع اليسرى
…إلى أن يقول الشاعر:
تضم الماء والبشرى
وعين ترصد الدهرا
فيدنو طائف المسرى
ثم يقول: «جلسنا دون أن نسأل
وقلنا ما لنا نجهل؟
لأي كان في أول؟
فلا بد أن يرحل
وكل يبتغي أفضل
ولو في الموت والحنظل..
«قصيدة تخوم الأرق»

الأزمة تلك هي بحث مستمر عن أدوات تنقل قارئ «العرائس» من المجرد إلى الحسي، بتجسيد رؤية جمالية للشاعر، تبعث روح الحياة في الجامد، وتوطن الدال الجوهر على الكمون الحقيقي لمعنى الشعر.
لا تتوقف قصيدة الشاعر رشيد العلوي على فارق التأويل واستدراكه، بل تحتفي شعريته اليقظة والمدللة على الإيحاء الوامض لشعر ينحني لعواصف التقريض والانزياح، ما يجعل ديوان «العرائس» قيمة إضافية حقيقية لتلك الفينومينولوجيا الهائمة في بحور البسيط ، التي تجعل من الصور الفاغرة روحا لقيم مضافة، آيات من نحت الإبداع الشعري من تخوم قصيدة النص لا قصيدة الرؤيا.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى