منمنمات أرجنتينية تروي بسحرية حكايات عن نساء وبقايا رجال

عمار المامون

مازال تأثير الكاتب الأرجنتيني الراحل خورخي بورخيس (1899/1986) طاغيا على كتّاب الأدب اللاتيني، وكأن هذا التأثير لن ينتهي إلا بانتهاء فهرس المكتبة المتخيلة الذي ألفه، فمعاصروه ومن أتوا بعده تحضر في نصوصهم هذه التعويذة السحرية التي أطلقها، ومنهم الكاتب الأوروغوياني الراحل ماريو بيندتي (1920/2009)، الذي نقرأ سِير المحبطين والمنسيين في مختارات قصصية له بعنوان “عشيقات الماضي البعيد”.

عثرات خفية

يتلمس بيندتي في هذه المجموعة عدة وضعيات للمرأة، بوصفها الثيمة الأساسية للمجموعة، فاختلاف التقنيات والحكايات وصيغ الرحيل التي تحكم شخوص القصص يجعل من هذه المجموعة أقرب لتمرينات على الوحدة ومجازاتها، لتكون لمحة السوداوية هي الطاغية، ولتبدو النكتة التي تحويها بعض القصص جارحة أحيانا بوصفها ضحكا بسبب الخسارات وسخرية من العجز.

تتناول أغلب قصص هذه المجموعة وهي من ترجمة علاء شنانة، الصادرة هذا العام عن دار طوى للثقافة والنشر، غياب المرأة، غيابها كأم، كعشيقة، كزوجة، بنديتي يبحث في وضعيات المرأة وعلاقتها مع الآخر، بوصف غيابها مأساويا، فهي الأم التي قد تنهار الأسرة بسببها، هي العشيقة التي تتفانى من أجل من تحب، هي الزوجة التي تحمل عبء الجميع، فهي الظلّ أحيانا وأحيانا الجسد الطاغي المهيمن على ما حوله.

تطغى موضوعات الحياة اليومية على المجموعة، فبندتي برهافته كشاعر يترك الأحداث تمر بسلاسة دون تشعب، حدث واحد، موضوعة واحدة لكل قصة، والتي قد تخلو أحيانا مما هو مميز، لتبدو كحدث عابر أو وحي طارئ أصاب الكاتب لتدوينها، لكن لا ينكر السوية العالية لبعض القصص التي تتنوع تقنياتها بين المراسلات، والمونولغات، والهلسات.

التقنيات المتعددة في هذه المجموعة تتيح للكاتب اكتشاف دواخل الشخصيات وعوالمها، ووصف تلك الأجواء التي تحيط بها قبل السقوط، فبندتي وريث تراث هائل من السرد العجائبي الذي نتلمسه في كل حكاية، وهو لا يقدم بنية متكاملة، بل هيكليّة مكونة بهشاشة يتلمسها القارئ لتتبع خيوط العلاقات الإنسانية الدقيقة، إذ يترك الكلمات تكوّن الحكاية، فهو لا يقدم شخوصا وأماكن متكاملة الوصف بل خيالات تقارب الزجاج بهشاشة حضورها وقابليتها للكسر، هي مهددة بالانهيار إثر مجرد لمسة.

تحضر الوحدة في “عشيقات الماضي البعيد” بوصفها اختبارا للكائن، ما هي الحدود التي يمكن بلوغها؟ وما هي اللحظات السابقة لها؟ الانتحارات المفاجئة وانفصال الأصدقاء والخيانات الزوجيّة، كلها لحظات حساسة قبل وضعية “الوحدة”، ليطفو السؤال، كيف يمكن أن يصبح الكائن وحيدا؟ هذه الاحتيالات على الزمن يجعلها بيندتي حاضرة بالتفاصيل الصغيرة، كأن تهب ريح ويسقط الورق الأصفر، أو يهمس أحدهم باسم ما خلال نومه، أو كما قصة “ليلة القبيحين” حيث تبلغ شدة الوحدة أقصاها، لنرى غريبين يضيعان في جسدي بعضهما في ظلام دامس، عاريين خوفا من قبحهما، مصادفة جمعتهما تنتهي بهما عاريين في بكاء طويل.

فالوحدة في المجموعة حدث طارئ، حالة لا صحية لا بد لها أن تنتهي بانهيار أو جنون، القبح الذي يذكره بيندتي أشبه بوصمة استثناء، عالم الجميلين صارم، ينفي كل من لا يشابهه، ليغدو الظلام مصير الوحيدين، وكما حال الغريبين، يتلمس بيندتي شخصياته الباقية التي تقع في الحب، أو تؤجله، يحاول برقة أن يداري هذه الكائنات التي يمضي الزمن سريعا خلالها، لتجد نفسها على الحافة، الإحباط أشبه بالضباب الذي يتخلل تفاصيل هذه الشخوص لتغرق في اللا وضوح، فالوحدة هي ليست كالعزلة، هي أن تتحسس هلام الزمن يتكاثف على روحك حد الاختناق.
فراغات للخيال

تترك القصص التي يرويها بيندتي الكثير من الانقطاعات ضمن بنيتها، ليسرح القارئ بخياله لملء تلك الفراغات السرديّة، لا يطرح بيندتي تساؤلات، بل يترك كل شيء معلقا، لا نهايات حاسمة، حتى في العلاقة مع النساء والأنثى، ففي القصة التي تحمل المجموعة اسمها “عشيقات الماضي البعيد” نرى الحب يأتي متأخرا، لكن واضحا دون مواربة، الوحدة التي كانت طاغية سابقا والتنقلات والعلاقات السطحية يمكن أن تنتهي بعبارة، بلمسة واحدة فقط، فالزمن في هذه القصة أشبه باختبار للصلابة، كالنار التي تجعل الكائن أشد قسوة وبذات الوقت قابلا للكسر.

بيندتي رحل عن العالم عام 2009 تاركا ما يزيد عن الثمانين مؤلفا، تتنوع بين الشعر والقصة القصيرة والرواية والمسرح، وأثار رحيله الكثير من الحزن في الأوساط الأدبيّة، حتى أن الكاتب الحائز على جائزة نوبل خوسيه ساراماغو كتب يوم رحيله “إن أعمال ماريو بيندتي، صديقي وأخي، مدهشة في كل نواحيها، سواء في اتساع رقعة الأنواع الأدبية التي تشملها، أو في رقة وشعرية تعابيرها، أو في درجة الحرية المفاهيمية التي تحويها، فلبيندتي، اللغة، كلها، شعرية”.

أما كلمات بيندتي الأخيرة التي أعطاها لسكرتيرته على ورقة قبل أن تشتد أزمة الربو التي أوقفت قلبه فهي “كانت حياتي أشبه بمسرحية (فارس)/ وفَني لم يُلحظ كثيرا/ وكأني كنت أطفو وأنا الآن عجوز/ لكن لمعة بلاط الأرضية البنيّة لم تختف من على جلدي / (شذرة)”.

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى