«جدل ثنائي» للدهان ونصرة.. حوار بين النحت والتصوير

سامر محمد اسماعيل

كما لو أن اللوحة تكمل مناظرةً خيالية مع المنحوتة؛ أو كأن الزيت والضوء الساطع في وجوه وأجساد نساء إسماعيل نصرة (مواليد سلمية 1964) خرجا للتوّ عن الإطار المنجز لهما كحضور مادي تجمّدا بين كوادره، ليُتمّا تعبيريتهما التشكيلية الجديدة مع أبعاد المثيولوجيا الطينية التي أنجزتها أصابع النحات وائل الدهان (مواليد دمشق 1969) مازجةً صلصالها بدموية المشهد الراهن.
حديثٌ بين النحت والتصوير تلتبس فيه أدوار الوصيفة والسيدة؛ المرئي باللامرئي، الأنا والآخر، ففي معرضهما «جدل ثنائي» (غاليري ألف نون، من 22 أيار إلى 21 حزيران) ثمّة حوارية ربما تكون خفيّةً ومستترة في جانب من العرض الذي ازدحم به فضاء الصالة الدمشقية الصاعدة من قلب الحرب، نحو ترتيب لقاءات مستمرّة بين تشكيليين سوريين مازالوا يعملون تحت القصف.
مناوشات عديدة يمكن رصدها هنا بين قرابة خمس وعشرين منحوتة (طين وسيراميك وخشب إلى الدهان) وبأحجام مختلفة تراوحت من (15×20 سم إلى مترين) وبين أربعين لوحة صاغها اسماعيل نصرة بالأحمر والأزرق والبني والذهبي؛ وبأحجامٍ تراوحت أيضاً بين (50×60 سم ومتر× بمتر ومتر × 120 سم) مستخدماً تقنية الكولاج في التمهيد للأرضية بالجرائد والورق الأسمر ومزاوجته مع مادة الأكرليك بين السطوع والعتمة، الأنثى والعصفور والكرسي والتفاح ومذكرات المدرسة الابتدائية؛ تقنية تركت مجازات عديدة للمرأة التي لطالما نشدها نصرة في أعماله مع الكائنات المشبعة بالأسطورة الخارجة لتوّها من مرحلة «البسكويت» في تماثيل الدهان والتي بدورها تبدو معشّقةً بطواطم ووشوم وعلامات وثنية؛ تبرز عبرها حكاية آدم وحواء السوريين، وقد جلّتهما أصابع المثّال بعذوبة ولين، تاركةً قسمات من عالمه الداخلي على أجسام حيواناته المرفوعة فوق أضرحة طولانية اشتقها الدهان من النحت التدمري والأوغاريتي.
تجاورات عديدة وكثيفة بين سطوح خشنة لمنحوتات الدهان ولوحات نصرة يمكن مقاربتها وجعلها تبدو كثيمة للحرب وما تركته من أثر على خطوط الفنانين السورييّن وألوانهما وطريقة صياغتهما للكتلة وتوزيعهما للضوء والظل، أو اللعب على ارتفاعات وقيم التوازن البصري؛ لكن الأهمّ يبدو هذا النزوع إلى إنجاز ما يشبه مدوّنة تشكيلية يتماهى من خلالها عمل الخزّاف مع المصوّر في جدلية لونية نحتية تبرم وظائف مختلفة من هذا اللقاء السجالي؛ نحو أعمال ربما تكون أكثر تركيبية وأكثر قدرةً على محاورة فضاء العرض نفسه، فالصالة الصغيرة المفتوحة على حديقة مليئة بأشجار الكباد والتوت والجوز في حي الشهبندر الدمشقي؛ جعلت من هذا المعرض فسحةً ما للتأمل الجماعي بين أطروحات فنية مختلفة.
هذه المعالجة لفضاء العرض والرغبة في تطوير وظيفة الفراغ والكتلة جنباً إلى جنب مع حضور طفولي للمرأة في اللوحة؛ تناسخ بدوره عبر لحظة مشاهدة مديدة لا تنتهي بانتهاء العرض؛ بل تجعل من لحظة التلقي لحظةً معقّدة للغاية؛ فبدون ترك الهيمنة للمنحوتة على كامل الفضاء وجعل اللوحة شريكاً فيه، نطل أكثر فأكثر على غنى تشكيلي باذخ؛ أقرب إلى ما يمكن تسميته بـ «لوحات متقاطعة» يفكر بها النحت تارةً ويكملها التصوير تارةً أخرى، فاكاً رموزها وألغازها. ليس اكتظاظاً مجانياً أو تكديساً للجمال بقدر ما هو محاولة لتجزئة الفضاء وتوزيعه بعناية بين نساء نصرة المتورّمات أمام مراياهن المتقابلة، ومخلوقات الدهان التي تُخبرنا أن أيدينا ما زالت في الطين، وأن دولاب الخزّاف خرج نهائياً من إنتاج الجرار والرسم عليها إلى قراءة مختلفة لتحوّلات الطين؛ في محاولة جريئة لإبعاده عن مزالق الوحل السوري.

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى