30 شاعراً سعودياً يختصرون المشهد الشعري الشاب

محمد علي شمس الدين

الصفة الأبرز التي تميز نصوص كتاب «30 شاعراً – 30 قصيدة» (مختارات من الشعر السعودي الجديد، كتاب الفيصل العددان 473-474) هي البكارة الشعرية لعدد وافر من النصوص الجديدة. إنها أنطولوجيا شعرية صغيرة محدودة في الزمان والمكان. والفكرة، كما رسم إطارها زكي الصدير في المقدمة، هي إظهار نماذج شعرية مختارة من جيل 1985 وما بعده في المملكة العربية السعودية. وهو جيل نشأ ونما بفعل قوة الشعر المولدة من دون نقاد، شارحاً الأسس الشكلية للاختيار. فالقصائد التي تعود إلى شاعرات وشعراء سعوديين مقتصرة على قصائد نثر وقصائد حرّة على أساس وزن التفعيلة المفردة. أما القصيدة ذات الوزن الخليلي (على البحر الشعري التام بشطريه المعروفين ووحدة الوزن والقافية) فمستبعدة لأنها وفق قوله: «قصيدة مرسخة من جهة وكذلك لقلة المشتغلين بها بصورة حداثية مدهشة من جهة ثانية». فكأنه حفر قبراً من مرمر لهذه القصيدة ودفنها فيه، وذلك شعرياً غير جائز. وثمة اعتبارات أخرى للتوزيع الجغرافي للشعراء على مناطق المملكة أخذ بها المعدّ، مستثنياً منطقة القصيم الغنية بالشعراء من اختياراته، ما جعل الأنطولوجيا ذات نقص بيّن. ولكنّ كل انطولوجيا شعرية ناقصة بالضرورة.
اهتمت القراءة النقدية المرافقة للمختارات، والتي كتبها محمد حبيبي بعنوان «ملامح الكتابة لدى جيل الألفية»، بالدلالات المستمدة من مفردات متماثلة أو متشابهة وردت في النصوص الشعرية، كالغرفة والجسد، ما يعني العزلة. واستنتج فضاء الرغبة في الانعتاق في نصوص الشاعرات (بخاصة). وهنا تبرز إشكالية نقدية تجاه الأنطولوجيا، كما برزت إشكالية في الإعداد، مصدرها عدم دخول الناقد إلى تقنية القول الشعري في النصوص. وهذه التقنية التي تخص كل شاعر على حدة هي التي تؤدي إلى فرادة النص أو الشاعر. فمفردة واحدة مثل «النوم» تؤدي تبعاً لاستعمالها بين ثلاثة شعراء من ثلاثة أزمنة إلى ثلاث دلالات بناء للتركيب الشعري لكلٍّ منهم.
قال أبو الطيب المتنبي «أنام ملء جفوني عن شواردها/ ويسهر الخلق جرّاها ويختصم».
فالنوم هنا طمأنينة القادر والقوي، والوزن ينسجم مع الطمأنينة. يقول بلند الحيدري في قصيدة «أقراص للنوم»: «خذ قرصاً… خذ. قر .. قر .. قر .. صاً للنوم»، فالنوم هنا تخدير المؤرق المريض بقرص للنوم، ولعثمته تنسجم مع دلالته.
يقول إياد الحكمي في قصيدة «عقاقير» (من المجموعة): «حبة لارتفاع الحنين/ وملعقة لانخفاض الأمل». فالأحاسيس لديه في القصيدة مرتبطة بكيمياء اًلية مرضية، يقولها لكن بإيقاع السخرية المقطعي الموزع.
الفرق بين الثلاثة فرق أسلوب إدارة الكلمات، وتدخل فيه عناصر كثيرة من العصر والموسيقى والتحويل في اللغة والصورة والاستعارة وما إلى ذلك.

زاوية النظر النقدي
الصورة النقدية لمجموعة قصائد لشعراء متباينين يجمعهم عنصران غير جامعين هما العمر المتقارب والمنطقة الجغرافية الواحدة، تدفع القارىء الى البحث عن أسلوب. والقراءة هنا جاءت حصيلة ملاحظات مكتوبة على هامش كل قصيدة على حدة. ثم النظر إلى المشترك النقدي بين القصائد. والملاحظة الأولى هي وجود ظلال غير مؤكدة لبعض أطياف شعرية سابقة، سعودية وعربية، على بعض القصائد.
ولكي يبقى ذلك طي الخفاء، تأتي البكارة الشعرية لتغلب على الكثير من النصوص حتى لتحس أنه شعر طالع للتو من النفس الشاعرة لدى احتكاكها بالحياة، أكثر مما هو طالع من الذاكرة. علماً أنّ هذا يجرّ بعض النصوص إلى مزالق نثرية وصفية.
واللافت أيضاً أنّ أنساق الأزمنة تختلف في القصائد. هناك الزمن الوجودي وهناك الزمن الزراعي وهناك الزمن الآلي، ويتفرّع عن ذلك محاور كثيرة. فمن الزمن الوجودي تنفر مقولة الضجر والعدم كما تتدخل سائر طقوس الموت والخوف وسائر الطقوس النفسية. كذلك الحب والعلاقة بين رجل وامرأة والعلاقة مع النفس والعلاقة مع العناصر والطبيعة. فلا تستطيع أن تغفل تقنية الكاميرا أو نص الكاميرا، وهي تقنية سينمائية لدى كل من علي عاشور وهدى مبارك ومحمد الحميد. أضف إلى أنّ زمن الساعة صارخ لدى أحمد الصحيح، والزمن الوجودي والسخرية تعبئان نص إياد الحكمي.
وفي شيء من التفصيل فإن قصيدة «إلى ميلانا» لأبرار سعيد تنطلق كنافورة مضغوطة. ميلانا هي وجه الشاعرة (الآخر) المرجو. والشاعرة مستعدة للموت بعد تجاوز الخوف للخروج من الأسر، في اتجاه «ميلانا»، أي في اتجاه ذاتها الحرة المسماة باسم آخر.
قصيدة ابراهيم حسن طياشي «العصا التي صارت طريقاً» هي نص فيه حرفية ولعب سحري. ولعلّ الشاعر يتنبه لأوسكار وايلد الذي يرى أنّ الحياة تقلد الفن وليس العكس. «حكيت لهم كل شيء ولم أتوقف عن الكذب ليلة واحدة». فوران الضجر والحسّ بالغربة تستدعيه قصيدة أحمد العلي «أوتيل كاليفورنيا»: «حتى الدمع \ يهمي من عيني اليسرى وحدها». إنها كتابة حساسة ومدربة ولا تبتعد عن ان تكون سردية، إذ عنصر القص موجود فيها كما هو حاضر في معظم نصوص الكتاب».
يسيطر على نص إيمان محمد «حديث ليل» شيء من الرومنطيقية السوداء. والنص يأتي كأنه صفحة أفكار امرأة ذات وساوس. وفي «روح النبات» لحيدر العبد الله عودة إلى الزمن الزراعي حيث ينسج الشاعر علاقة تشبيك بين اليدين والطين. ومن خلال الإيقاع التأملي (فعولن) الهادىء البطيء يندمج الإنسان في زمنه الزراعي. إنه نص شعري ينسرب كالماء المنسرب في قناة في حقل «يسعى على قدميك وساقيك حبل من الليف\ يوشك أن يوثق الطين بالروح\ والوقت يجري خلالك\ أصبحت أنت القناة».
في قصيدة «الموت» الموزونة على أساس «مستفعلن» وجوازاتها لعلي الدندن، نعثر على شاعر يبحث عن وجهه وهو يملك أحاسيس الموسيقي الفطري (الوزن). لكنّ التعبير المباشر عن الموت بالموت من دون حكاية أو صورة يحشران القصيدة بكاملها في جملتها الأخيرة «زهرة لوتس الإغماء».
«ربما كان» لعلي عاشور نص دائري ملعوب ببراعة فائقة، إذ يلعب على الطفولة والذاكرة والزمن. وحين نظن أنه عثر على الفكرة واستهلكها ينسفها من أساسها كأن لم يكن لا ماض ولا صغير. أما في «الطويل» فنحن أمام نص سينمائي تلعب الكاميرا دوراً فيه والذاكرة بصرية مشهدية. وعلى رغم ان اللحظة الشعرية لحظة عزلة إلا أن الشاعر يقدمها من خلال مشهد سينمائي حيث الظل والضوء والكاميرا تلعب دوراً مهماً في بناء المشهد الشعري.
وفي قصيدة «بعد تلاشيك» لعهود حجازي، ثمة حب مفقود. لكنّ القصيدة ذات قوة تعبيرية، وقوّة إحساس.
نصّ الضياع في «آسيا» لمحمد حميد هو لحظة حلمية مصورة، إنه نص الكاميرا: «أنا النائم الآن /أمشي وفوقي كاميرا قد تذكرني في اليوم التالي ما فعلته في الغرفة…».
يكتب محمد عبدالله علوان عن إشاعة الخلل في التركيبة قصيدة بعنوان «فنتازي محير». ولكن داخل النص السردي النثري الإخباري شعوراً فادحاً بالخلل، ينتمي إلى الزمن الوجودي للشعر وهو زمن حاضر في الكثير من القصائد. أمّا عند مفرح الشقيقي في «طعون» فنحن أمام نص مكثف ملموم على نفسه وحول جملة نداء «كن أنت» وحركته كحركة نقطة ماء تنسرب بانتظام من ألف إلى ياء. وهو دعوة إيقاعية موزونة للتوحد ضد الخديعة أما الانتظام في القصيدة (وحدتها العضوية) فيأتي من وحدة التفعيلة (تفعيلة الكامل) مستفعلن وجوازها متفاعلن والقافية المقطعية الموحدة وتضامن الفكرة الواحدة بمختلف وجوهها، وغنائيتها تنبعث من التكرار الصوتي المنتظم للتفعيلة.
لم يظهر أن الوزن يزيد من شعرية النصوص الموزونة، كما أن السرد في قصائد النثر لم يكن قادراً على منع إيقاع خفي منسرب في علاقات القصيدة وهارمونيتها. وفي كلّ الأحوال يبقى الإيقاع مسيطراً على أفق كل النصوص وهي مسألة تخص قصيدة النثر وقصيدة الوزن معاً. هذا ما لاحظه ت. س . إليوت في العصور الحديثة. وما كان لاحظه ابن سينا (وكان طبيباً) في وصفه لنبض القلب وكأنه يصف توالي الحركة والسكون في بيت من الشعر فقال: «إن كل نبضة مؤلفة من حركتين وسكون لأن كل نبض مؤلف من انبساط وانقباض ولا بد من تخلل السكون بين حركتين متضادتين» . فكأن ابن سينا في وصفه لحركة القلب يشطر بيتاً من الشعر.

 

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى