الرواية اللبنانية شاهدة على عنف الحرب واستمراريته

حدث الناقد الفلسطيني الدكتور فيصل درّاج حول الرواية اللبنانيّة ومسارها الطويل الذي سلكه أدباء مثل: جبران خليل جبران، وأمين الريحاني وتوفيق يوسف عوّاد، وطوّره جيل لاحق رصد في أعماله الحرب الأهلية، مثل: إلياس خوري وربيع جابر وهدى بركات التي لعبت دوراً مميزا جعل منها شاهدة على عنف الحرب.

جاء ذلك في المحاضرة التي نظمتها دارة الفنون في مؤسسة خالد شومان في العاصمة الاردنية الخميس، ضمن لقاء ثقافي بعنوان حول الرواية اللبنانيّة.

وقال دراج إن اللبنانيين هم السباقون إلى كتابة الرواية منذ أن كتب أحمد فارس الشدياق “الساق على الساق”، وصولاً إلى توفيق عوّاد وروايته “الرغيف”، في العام 1939، وسهيل إدريس في “الحي اللاتيني”، مروراً بجبران خليل جبران وأمين الريحاني في عمله المتميّز “كتاب خالد”.

واعتبر الناقد الفلسطيني أن العمق التاريخي، وتجربة الحرب اللبنانية، هو ما جعل من الرواية اللبنانية ظاهرة، أو قريبة من الظاهرة الأدبية المحددة الملامح، لها رموزها الكبيرة مثل إلياس خوري، وربيع جابر، وهدى بركات، مشيرا إلى أن عنف الحرب اللبنانية واستمراريتها الطويلة، جعلت من الحرب موضوعاً أثيراً للروائيين اللبنانيين، فكتب عنها ربيع جابر، المأخوذ بالوثائق التاريخية، وإلياس خوري المبدع الكبير الذي كتب عن لبنان والتفت طويلاً إلى فلسطين، أكان ذلك في “بوابة الشمس” أم في عمله الواسع الأخير “اسمي آدم”، إضافة إلى آخرين مثل رشيد الضعيف وحسين داود.

وتناول دراج ثلاث روايات لهدى بركات: “حجر الضحك”، “أهل الهوى” و”حارث المياه”، مبينا أن الروائية بركات احتلت اعمالها مكاناً متميزاً لسببين: فقد سجلت تجربة الحرب من الداخل، من موقع يرى إلى تفاصيلها اليومية المعيشة، بعيداً عن البلاغة والصور الجاهزة، ووضعت ما سجّلته في بنية روائية عميقة متعددة المستويات، تسمح بقراءة رحبة، تحتضن مجتمع الحرب والتاريخ القريب، والبعيد الذي أنتجه، ولهذا تعامل القارئ مع نص فني رفيع يقترب من الفرادة.

والدليل على هذا رواية “أهل الهوى” التي يقف القارئ فيها أمام شهادة مكتوبة نافذة الرؤية، لا تبدأ من كائن مجرد آخر يدعى الذكر، في مقابل كائن مجرد يدعى الأنثى، بل من مجتمع ينتج تصورات ذكورية، ويعين الحرب حقلا نوعيا يفصل بين المحارب والمرأة التي ترى إلى الحب وتقع على العنف والاغتراب.

وأشار دراج إلى أن بركات في روايتها الأولى “حجر الضحك” كشفت عن طبيعة مجتمع اختبرته الحرب وتركت وجهه الحقيقي عارياً، متوسلة مجازاً كثيفاً هو “الرجل الخنثى”، فقبل الحرب يبدو “الخنثى” فادحاً في هشاشته، متردداً ضعيفاً أقرب إلى التفكك، وبعد الحرب يتحول إلى الكائن الدامي الذي صاغته الحرب، أو كشفت عن جوهره الخبيء، كأن “الخنثى”، في مجتمع هجين الحداثة، لا يصبح رجلاً إلا بواسطة العنف والتدمير، كما لو كان فعل القتل هو المجال الذي يشبع فيه رغباته المكبوتة المتوارثة. ولهذا تنفتح الرواية على إنسان محدّد وتنغلق على آخر، راصدة تحوّلاته من فترة لم يكن فيها مقاتلاً إلى أخرى عاش فيها رجولته وهو يطلق النار على الآخرين.

وأوضح المحاضر أن الحرب ولوعة الفقدان تتوزع على “حجر الضحك” و”أهل الهوى” بشكلين مختلفين: فهي في الأولى ـ مباشرة صريحة، وفي الثانية لا مباشرة، حاضرة ومقنّعة. بعيدة هي بمخلوقاتها المفترسة، وقريبة بمخلوق بريء التقى، صدفة، المخلوقات العجيبة، كأن ما يستكمل في الرواية الجديدة ويعارضها معاً: يستكملها واضعاً الحرب في عاشق مجنون، ويعارضها بمواد الحكاية وأقدارها المختلفة.

ووفق دراج ابتعدت بركات في روايتها الثالثة “حارث المياه”، عمّا بدأت به، راجعة من تاريخ القيم إلى عالم الفن والجمال، وينطوي الانتقال على تشاؤم صريح، وعلى كره لليقين وتطيّر منه، ليظهر التشاؤم في التذكير بمبادئ الحب، وبمأساة الإنسان الذي لا يودّ أن يكون قاتلاً ويتراءى اللايقين في الحوار مع الفراغ، دون السقوط فيه، وما رواية “حارث المياه” إلا الإنسان الجميل الذي يبني وهماً عالماً جميلاً مسوّراً بالخراب.. يبني بيتاً يداري به بؤسه ويموت بائساً، معتقداً أن في جمال “الحرير” ما يصدّ عنه الأذى ويمنع عنه الموت.

وانتهى الدكتور فيصل دراج إلى القول أن بركات ترسم في رواياتها الثلاث مشهد الحرب، من زوايا مختلفة، مشهداً مفزعاً صاغه تصور أخلاقي، اقترب من اليقين، قبل الحرب، وأقلع عن اليقين، بعد أن غادر مدينة الحرب، واستقر في فضاء التأمل والكتابة.

 

(ميدل ايست اونلاين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى