عبدالسادة جبار: لا تدع فكرة الهجرة تتسلل لرؤوس أولادك

قاسم ماضي

أتفق معه أم أختلف؟ فهو يتميز بالكثير من المواصفات غير المتوفرة عند البعض من الذين أعرفهم، فهو عصامي، صبور، له باع طويل في الثقافة والفنون، محبوب لدى الجميع، وهو محق بإن يعطي فتاوى كثيرة لهذه المرحلة الصعبة من تاريخ العراق، لأنه عاشها بكل تفاصيلها، ولأنه متشبث بأرضه منذُ نعومة إظافره.

وأنا الذي غادرتها، فله الأولوية في إعطاء الفتاوى على أرضه، وكما يقال إن الأدب فن تصويري يسخّر الصورة للتبليغ وكذلك للتوصيل من جهة، والتأثير على المتلقي سلباً أو إيجابياً من جهة أخرى.

“ربما تعود الطائرات لتقصف المكان”.

وهذه التبليغات لأبناء هذا الجيل الذي يعيش أسوأ مرحلة في تاريخه من حيث الموت، والدم، والدمار، منذُ الاحتلال الأميركي عام 2003، وهذه الفتاوى غير دينية لأنها لم تصدر من مرجع ديني، بل من فنان وكاتب له تجربة ناضجة في هذا المخاض الصعب، فهو رافع راية الأدب والفن بقلمه في عصر انغمس بالمادة ونسى الروح، خلق الله الإنسان مفطورا على التفكير بما منحه من قوة عاقلة، مفكرة. فجاء جبار ليرشد الكثير من هذا الجيل إلى تصحيح التفكير بما نمرُ به بسبب عنجهية النظام السابق والأنظمة الدولية التي تخبّئ الشر لنا.

“الظرف الأمني لا يسمح”.

فهو ومن خلال هذه القصة “بين اكيوس .. وطريطش” يصبُ غضبَهُ على أحداث مررنا بها حتى هذه اللحظات، مستخدماً حالة الانفلات التي مر بها البلد، من خلال شخصية الدكتور الذي قُتل في مكتبه من قبل جهات غير معروفة.

“وقفت على أنقاض مكتبه المدمر، اردت أن أصرخ”.

إسترجاع الأحداث “الفلاش باك” في قصته المعنونة “بين أكيوس وطريطش” وهو يجدد بقدرته الوصفية على الأماكن التي اختارها ومنها وطنه الكبير “مكتب الدكتور”، فهو يعبر القاص والكاتب والفنان جبار تعبيراً فنياً جديداً ومكثفاُ عن أحاسيس ومشاعر البسطاء وآمالهم.

“آردت أن أصرخ لعنتُ وشتمتُ امريكا، والنظام، والأمم المتحدة”.

وهذه الإستعارات التي استخدمها الكاتب هل هو محق بها أو غير محق! وخاصة نحن نعيش كما يقال في عصر “الديمقراطية” الجديد الذي أسسه الملعون بريمر وتبناه كل من جاء معه، فلماذا يرمز إلى رأس الأفعى “النظام العراقي السابق” بـ “طريطش” أو لنقل أنه أراد “الكاتب” جذب القارئ من خلال الترميز وإيصال معلوماته الفكرية إلى الآخر. وبما أن القصة تنفذ إلى الواقع وتعبر عنه بتركز شديد ولغة قوية.

“لا يريدون ان يصدقوا أننا لا نملك أسلحة دمار”.

فوجدنا في هذه القصة المنشورة في مجلة الأديب العراقي والتي تحمل عنوان “بين أكيوس .. وطرطيش”، وهي مجلة فصلية تصدر عن الاتحاد العام للادباء والكتاب في العراق، حالة توثيقية لتاريخ مظلم عاشهُ الكاتب مع شعبه، فقدم هذه القصة بمشهد مضغوط فيه من الدلالات الكثير، أو موقف إنساني مكثف، أو حتى انطباع خاص عن جو من الأجواء حتى يقارب في هذه التشكيلات.

“والنشاط الغريب الذي يتمتع به هذا السويدي، الذي لم يكتف بتدمير الجزء الكبير من ماكينة الدكتاتور الفاشلة”.

يقول الناقد الكبير فاضل ثامر والنص المفتوح على وفق ما بلوره امبرتو ايكو، ينطلق من فرضية بديهية أو مسلَمة تتمثل في كون العمل الفني عبارة عن رسالة يكتنفها الغموض أصلاً، بمعنى آخر يمكن أن نفهم العمل الأدبي على أنه كثافة من المدلولات المتواجدة في دال واحد.

“نظرته الغامضة ابتسامته الزائفة، عيونه الخضر التي تحدق طويلا بالملفات التي بين يديه”.

وفي هكذا قص تدخلنا في الكثير من التفاصيل وتضعنا أمام مسؤولية كبيرة إزاء الوطن، فكانت الفتاوى التي أطلقها إلى الأجيال هي بمثابة رسائل مهمة للجميع، وقد شدتني في هذه القصة المعنونة “بين اكيوس .. وطرطيش” البناء والدلالة رغم المأساة التي حلت علينا والتي تكمن في جوانحها، الا انها تدفعنا للتعاطف مع بطلها “الدكتور” المقتول بلا ذنب سوى ارتكاب فعل الخير من أجل بلده، هذا الإنسان الذي تخصص بعلوم “الفيزياء” خدمة للصالح العام.

“أين آل مصير الدكتور خليل رشيد حياوي، كنت أرفض ترويج معاملة إحالتي على التقاعد ليس حبا بالدائرة بل اعتزازا بتلك التحية التي كنت اتلقى ردها منه”.

فها هو القاص جبار رغم كل هذا العذاب الذي يعيشه في بلده، إلا أنه يظل يتمسك بهؤلاء الشرفاء وتبقى صورهم في ذهنه، وبالتالي نحن أمام صورة بصرية غنية بالمدلولات فيها الكثير من الألغاز التي جعلتنا نذوب فيها.

“حتى تبين ان طريطش هو طريطش”.

بقى أن نذكر أنه صدرت للكاتب والفنان عبدالسادة جبار المجموعة القصصية المعنونة “ولادة في جدار” ومسرحية “كوابيس الأبيض وبيان يقظته الأول” عام 2013.

(ميدل ايست اونلاين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى