معاندة الآلهة.. محاكمة سردية لحكم عبد الناصر

انطوان جوكي

نعرف المصريين بهجت النادي وعادل رفعت باحثين مجددين وضعا كتباً مرجعية حول تاريخ مصر السياسي غرد النص عبر تويتر وبدايات الإسلام، وها هما اليوم يكشفان عن موهبة سردية ملفتة في رواية صدرت حديثاً في فرنسا تحت عنوان “معاندة الآلهة”، وتتناول فصلاً من تاريخ مصر الحديث نادراً ما تمت مقاربته أدبياً.
أحداث الرواية التي وقّعها الباحثان باسم “محمود حسين” تقع في سجن الفيوم عام 1959، حيث نتعرّف إلى الراوي وهو طالب جامعي أوقف مع كثيرين غيره خلال حملة الاعتقالات التي أمر الرئيس جمال عبد الناصر بتنفيذها في مطلع العام المذكور ضد جميع المعارضين لحكمه.
داخل السجن يعيش الراوي حياةً مملة لا تكسر رتابتها سوى عمليات الإذلال التي يتعرّض لها السجناء بشكل منهجي، وأيضاً الرسائل التي تكتبها له حبيبته ناديا يومياً وتتوجّه فيها إليه كما لو أنه بقربها.
لكن بخلاف أوليس -بطل هوميروس- الذي انتظرته زوجته بينيلوب عشرين عاماً، وتمكّن حبّهما من كسر لعنة الإله زيوس عليهما، لن يفلح حب الراوي وانتظار حبيبته له في تخليصه من محنته لمواجهته عدواً من نوع آخر: “الدولة المصرية لم تكن شخصاً، بل يجدر إدراجها في خانة الكوارث الطبيعية، دولة لم يكن هدفها انتزاع شيء منا، بل هرسنا”.
“قيمة هذه الرواية تكمن في كسرها الصورة المثالية التي ما زالت سائدة في عالمنا العربي حول شخصية عبد الناصر وطبيعة حكمه التي لن تلبث أن تتعارض مع أحلام الشباب المصري وتطلعاته إلى الحرية والديمقراطية”
نقد سياسي
ولتمرير الوقت، يسرد الراوي تفاصيل حياته في السجن، أو يطرق باب ذاكرته لسرد فصول وأحداث من ماضيه. هكذا نتعرّف إلى مسيرته عن كثب، بدءاً من طفولته في الريف المصري داخل عائلة متواضعة، مروراً بنضاله وهو مراهق ضد الجيش البريطاني خلال العدوان الثلاثي، ثم بعملية تشكّله الثقافي والسياسي، وانتهاءً بلقائه ناديا واكتشاف نفسه تدريجياً خلال لحظات الحب السحرية، قبل أن يضع اعتقاله حداً لعلاقتهما الجميلة وأحلامهما.
فعن الأشخاص الذين اعتقلوا في فجر الأول من يناير/كانون الثاني 1959، يقول الراوي “كنا نحو ألف معارض يساري ألقي القبض علينا في أسرّتنا، وتم توزيعنا على مراكز اعتقال مختلفة. لم يكن هناك داع للخوف منا، كنا مجرّد بيادق على رقعة شطرنج تلعب السلطة السياسية عليها باحتراف ضد هواة، لم تلمْنا هذه السلطة على تشكيلنا تهديداً لها، بل على حرية تفكيرنا، عبد الناصر كان يريد أن نكتفي جميعاً بالتفكير مثله”.
وعمّا كان يطالب به اليساريون آنذاك، يقول الراوي لحبيبته “ما نريده هو نظام ديمقراطي، أن نعيش في مجتمع يمكننا فيه أن نتنظّم بحرية، كطلاب أو محامين أو صحافيين، من دون أن تتدخل الشرطة السرية في شؤوننا”.
وهذا لا يعني أن ثمة إنكارا لإنجازات عبد الناصر في بداياته، إذ نرى الراوي في منتصف الرواية يمدح خطاب “الرئيس” الشهير في 26 يوليو/تموز 1956 الذي أعلن فيه تأميم قناة السويس “فتوارت الحواجز بين الناس وشعر الجميع بالخفة والثقة والسعادة (…) وبأن مصراً أخرى كانت في طور الولادة”، لكنه يأسف لأن “مثل هذا اليوم كان فريداً إلى حد تعذّر تكراره”.
وكذلك الأمر بالنسبة إلى فصل “الوحدة مع سوريا التي حصلت في نشوة عارمة”، قبل أن يسعى عبد الناصر إلى زرع الدولة البوليسية في هذا البلد وإلغاء الحريات والتعددية المكتسبة فيه.
استعارة الحاضر
باختصار، يرى الراوي أننا “منذ ألفي عام، نقضي حياتنا في تحضير دفن بدلاً من تغيير العالم، لهذا تقدّم العالم من دوننا، بينما ما زلنا نحفر قبرنا”.

وإذ لا يفوته أن عبد الناصر تحدث عن تغيير كل شيء، فإنه يذكّرنا في اشتراط هذا الأخير أن يكون القرار له في كل شيء؛ “التغيير الحقيقي الوحيد هو تغيير الذهنيات والتقاليد، تغيير ما يشلّ العقول منذ زمن طويل. بتجميده هذا التغيير، شيّد عبد الناصر دكتاتورية لمصلحة طبقة جديدة”.
ولا تسلم الحركات اليسارية من نقد الراوي؛ فبعد كشفه حجم مجموعته التي لم تكن تضم سوى بضعة عشرات من الطلاب والأساتذة، واقتصر نشاطها على دراسة النصوص الثورية والتجنيد داخل حرم الجامعة، يعترف بأن مشروعهم الثوري فشل في بلوغ طبقة العمال والفلاحين.
أكثر من ذلك، نراه يتطرّق إلى الحقد الذي ميّز علاقة أفراد الحركات اليسارية داخل السجن، مشيراً إلى اعتقاد كل واحدة منها بأنها الوحيدة التي تحمل مشعل الثورة، ومن هذا المنطلق يرى أن أياً من هذه الحركات لو وصل إلى الحكم لتفرّد بالسلطة وتبنّى السلوك الذي كان يلوم عبد الناصر عليه.
يبقى أن نشير إلى أن صدور هذه الرواية اليوم، أي في زمن تعاني فيه مصر من حكم العسكر وقمعه المنهجي لمعارضيه السلميين، لا يمكن إلا أن يمنحها طابع الاستعارة.

(الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى