غبار الموت على وجه جمال القيسي

خاص ( الجسرة )

*فتحي الضمور

سأكتب عن جمال القيسي قبل أن يفقد أحدنا الآخر، سأكتب عنه حتى أكسر إيقاع الموت في الكتابة، وألوي ذراع الدنيا في الحياة، وألوّن الأصدقاء بألوان الحياة السبعة. سأكتب عن الغبار الذي ملأ وجه جمال القيسيعند حافة الموت؛ غبار أمه وهي تلوّح له بروحها، الغبار الذي ما يزال عالقاً في عينيه، وعلى وجنتيه، يغرف منه بكلتا يديه، ويلعقه بلسانه حتى لا يذهب سدى أدراج الرياح. هذا الغبار عند جمال القيسي أشهى من المنّ والسلوى، وألذّ من أي طبق إيطاليّ. هذا الغبار جعلني أكره الموت؛ الموت الذي يقسو على الابتسامات الجميلة، ويبطش بالقلوب الطيبة. خمسة عشر يوما والغبار على وجه الطفل الذي أصبح بين طرفة عين وارتدادها كهلاً بشعاً، خمسة عشر يوما، والماء لا يعانق وجه الرجل الهرم، فقط هذا الغبار الذيلا يجعل من الماء كلّ شيء حيّا!
من يعرف جمال القيسي يحبّ الحياة، ويكره الدنيا؛ جمال القيسي بلغة التراب، يشبه بليغ حمدي، وما بين حمدي والقيسي أغنية العندليب الأسمر ” أي دمعة حزن لا ” قال بليغ عندما سئل عن أحبّ أعماله: ” أغنية أي دمعة حزن لا أحبّ الأعمال إلى قلبي، لأني أجمع فيها ما بين الحزن والفرح وأنتقل للفرح فيها بجملة موسيقية لا أحد يشعر من خلالها بالحزن الذي كان يملأ قلبه ” وهذا هو جمال القيسي يشبه ” حمدي والعندليب والأغنية “.
وله في الشعر نصيب أكثر من الذين ينظمون الشعر، إذ أنّي وما أزال، لا أحفظ الشعر بسبب ذاكرتي التي سلبها الغياب والحنين، لكنّي أحفظ أية قصيدة على لسان جمال الذي يؤدّي الشعر بطريقة أجمل من أصحاب الشعر أنفسهم.
إذا كنت أمام البحر بحضرة جمال القيسي، ستعرف ما معنى البحر، وإذا كنت معه في بيروت، ستعرف كيف تغني ” اشهد يا عالم علينا وع بيروت “، وإذا كنت في سوريا ستعرف معنى أن تكون عربيا، وإذا تحدّث معك عن فلسطين، فإنك ستبكي بكلّ تأكيد، أما عمّان فإنها في قلبه، قلبهالذي غنّت له فيروز.
هو أكبر من الدنيا كلّها؛ هو البحر وهي الموجة، هو الكتاب وهي الحرف، هو الشجرة وهي الغصن، هو الفرح وهي الضحكة، هو الحزن وهي الدمعة. هو الجملة التي لم يغزلها زياد خدّاش.
جمال القيسي، حتما سيوقظك فجراً، ويغني لك على الهاتف ” طريق النحل الطاير ” أو ” يما رحنا ومشينا ” ثمّ بعد أن يثمل النغم، يقصّ عليك أجمل القصص القصيرة، القصيرة جداً.
لا أريد أن أكتب عن جمال القيسي الروائي أو الإنسان، بل لن أطيل في الحديث عن هكذا أغنية لم يغنها أحد. كلّ ما في الأمر أنّ جمال القيسي يختزل حزن هذه الدنيا في قلبه حتى تفرح أنت، ويحبس دموع القهر في عينيه، حتى يراك مغشياً عليك من الضحك. لم أكتب شيئا عن أبا المغيرة، عن الأسد الذي لا يقبل بالموت إلا دفعة واحدة، لم أكتب شيئا سوى بعض التراب الذي يحفظ أحبته.
بقي أن يصحو جمال القيسي على شمس فجر جديد، ليغسل وجهه بالحياة التي يحبّها من غبار الموت، حتى نستطيع الكتابة عنه أكثر.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى