رسالة من طفلتي…للكاتب لؤي طه

خاص (الجسرة)

 

أبي الذي أنسج عشقه بروحي من حرير عاطفتي، وأحبُّ كل ما فيه. صحوتُ على بزوغ شمس وجهك في عيوني؛ فأحببت الكون فيك. وصحوتُ على قمر أمي الذي يطلع في مساءات أيامي ولا يغيب. ما تزال ذاكرتي الخضراء تزهر بطعم حنانك ويفوح منها ياسمين احتوائك الآسر.
حين كنت لا أعرف من الحياة إلا أنت وأمي وألعابي وعالمنا الدافئ؛ لم أشعر بالخوف من الحياة بل على العكس كنت أركض بطفولتي لأكبر وأعيش تفاصيلها معكم. لم يخطر ببالي آنذاك أن خارج عالمي هناك أشياء كثيرة تحدث. كنت تؤمن لي كل أسباب الفرح إلى أن حسبت أن الكون كله مملوء بالفرح، وأنت تخرج في الصباح لتعود وأنت تحمل لنا أكياس السعادة والفرح المنثورة في شوارع الحياة. كنت أشاهدك وأنت تتابع الأخبار لكني وقتها لم أكن أعرف ترجمة المشاهد التي أراها فهي أكبر من أن يستوعبها عقلي الصغير. كنتَ مباشرة تغير المشهد وتضع لي على برامج الأطفال البريئة، وهكذا عشت لحظات طفولتي وأنا أرسم الملامح الجميلة لهذا العالم. لم أدري بما يحدث لأطفال العالم، لم أكن على علم بكل تلك الأحداث المروعة.
اليوم وبعد أن أصبحت واعية لكل ما كان مبهماً وضبابي في طفولتي، بدأت أتألم عليك وعلى اللحظات التي كنت تحاول بكل روعة منك أن تخفيها عني ولا تدعها تنال من براءتي. وبعد أن شاهدت الأطفال كيف يعيشون في خيام بائسة شعرت بعذاب ضمير كبير؛ كيف أنا أعيش في هدوء وسلام وما أن أطلب منك أي شيء اجده على طرف وسادتي وأنا اصحو على سرير وافر الدفء. وهناك أطفال غيري ينامون على التراب ولا يحصلون على نصيبهم من الطفولة ولا الهدايا ولا حتى الطعام. أقف الآن مذهولة من كل ما أشاهده من حولي، كيف استطعت يا أبي أن تضحك وتلاعبني طوال تلك السنوات وقلبك ممزق. لم أكن أدرك أن لك أم مثلي لكنك لا تراها كما أرى أمي كل لحظة، لم أعرف وقتها أن لك وطن وديار وذكريات وطفولة مثل طفولتي سرقوها منك واستباحوها أمام عيونك. آه يا أبي ماذا أقول وكيف أعبّر لك عن ألمي لأجلك. كنت أسمعك وأنت تردد لأمي عن الياسمين ولا أدري ما هذا الياسمين إلى أن كبرت وعرفت أنه يعني الوطن وعطر العاشقين وجغرافية الحب والحنين. لم أعد قادرة أن أنظر في مرآتي وأشاكسها وأغازل نفسي وضفائري، ووجوه الأطفال حزينة وضفائرهم مبعثرة ولا شريطة تلفها كما تفعل أمي بضفائري الكستنائية الناعمة. كرهت فرحي وصارت الراحة توجعني. كيف هذا يا أبي وأنت الذي كنت تقص لي قبل أن أنام عن بطولات أمتنا ورجالها العظماء، وتحكي لي عن مواقف المروءة العربية؟ هل كنتَ تكذب عليّ وتوهمني بحكايا ليس لها وجود؟ ألم تعلمني بأن الكذب حرام، فلماذا طوال طفولتي وأنت تكذب علي وتفهمني بأن الحياة جميلة؟ هل أنت وحدك الذي كان يكذب أم أن العرب كلهم مثلك يكذبون؟ هل أنت الوحيد الذي تخدع طفلتك بأن الحياة رائعة وبينما الواقع والحياة خارج بيتنا كله دمار وموت ودماء؟ حتماً سأغفر لك هذا الكذب لأني أعرف كم أنت حنون وشديد العاطفة، سأقول أنها كذبتك البيضاء خوفاً على طفولتي. لكني هل ترغب مني أن أغفر لأولئك الذين ذبجوا الطفولة وشردوها؟ هل تتوقع مني وبعد أن كبرتُ وفهمت كل شيء أنني سوف أفخر كما علموك في المدرسة؛ بأن تفخر بهذه الأمة التي لم تنصف الطفولة، ولم تقدر على شيء سوى أن جعلوا لهم في الصحراء خيام، وأعطوهم بقايا طعام لا يشبه الطعام. أعلم أن أتجاوز معك حدود الأدب الذي علمتني أن أكون فيه؛ لكني لا أريد أن أكون مثلك عاجزة عن النطق وأهز برأسي كما عشت أنت تفعل هذا وتعودت على الصمت والبكاء في الخفاء. سأواجه واقعي بجرأة أكبر من جرأتك فلن أكون أنثى تحكمها قوانين العشيرة كما حكمت أمي ونساء عصرها. اطلق لي العنان يا أبتي الغالي وفك وثاقي لأدافع عن الطفولة التي من كثرة خوفكم سرقوها وداسوا فوقها وأنتم تنظرون لا حول ولا قوة لكم سوى أن ترفعوا ايديكم إلى السماء تطلبوا الرحمة منها. لن أصير مجرد أنثى تنتظر مصيرها وبعد أن تتعب عليها وبعد سنوات الدراسة الطويلة أصير مجرد ربة منزل، أعلق شهادتي على الحيطان الباردة، حررني وساعدني يا أبي في أن يكون لي كيان ووجود لا تكن شرقي بخوفك علي ولا تخف من عيون القبيلة أن يقولوا عني جريئة. انظر إلى أين أوصلك الخوف والتردد وخشيتك من كلام الناس. أنظر إلى وطنك المذبوح بسبب الرعب الذي ظلّ يسكنكم من قول الحق. بعد هذا الذي أدركته لن أتوقف، ساتجاوز خوفك وأتحرر منه؛ لكنني لن أخذلك ولن أصيع تعبك في تربيتي. سوف اصطف مع صديقاتي وندافع عن الطفولة التي تأتي من بعدنا سأفعل كل الذي لم تقدر على أن تفعله أمي. سوف نتحرر من وهم الجمال والأنوثة والإثارة لن أنشغل بعمليات التجميل يا أبي وأهدر المال عليه؛ لكني سوف أنفق على عقلي كل ما أدخر لأن العقل هو الثراء للنساء. لن أكون أنثى فارغة لا أحلم إلا في رجل وسيم ولا أعرف من الحياة إلا كيف أحقن شفاهي وصدري لأبدو أنثى مثيرة. لن أعيش في جاهلية النساء الأولى. سوف أجعلك تفخر وتفرح أنك أنجبت طفلة لن اجلب لك العار إن لم تعش لتراني كيف أصبحت سوف يخبرك الله عني. لن انسى كم تعبت من أجلي ولن أكون جاحدة وأتنكر لكل لحظة حنان غمرت بي عمري وأيامي.
أبي وفي نهاية رسالتي اعتذر منك على نبرة حروفي العصبية؛ لكنني لن اعتذر عن قولي للحقيقة. أبي لن أترجم عشقي لك بالحروف والعبارات؛ سوف أترجم عشقي لك تاريخاً وعلماً وفكراً وأكون ابنتك الني تفخر أنك أبي، لكنها لا تفخر كثيراً أنها من أمة اجهضت أحلام الطفولة، أمة هزيلة استكانت للجهل والطائفية والعنصرية؛ أحرقت أوطانها، وقتلت بعضها البعض، ولن أكون جارية عند سيدي ولن أصير دمية يعبث بها قلبي وتهزها ريح الحب الشرقي المسكون بالوهم والمزاجية والرغبة والشهوة. تقبل جرأتي وتعود على أن تصغي للصوت المكبوت. فلولا الكبت يا أبي لما وصلت أمتنا إلى هذا الحال الحزينة.
رسالة من طفلتك التي تُحبها، والتي تذوب في شرايين عشقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى