كفاح الأمين في موسوعته الفوتوغرافية عن بغداد

محمد الحمامصي

شقّ كفاح الأمين طريقا جديدا للتوثيق بالصورة حتى اقترن اسمه بصفة “باحث فوتوغرافي” حينما قرّر توثيق معالم العراق المعمارية بالصور، فأنجز موسوعة ضخمة عن بغداد، أعادت إلى الأذهان صورة المدينة قبل قرن من الزمان، بعد أن تلاشت الكثير من المعالم العمرانية فيها، ومثّل مشروعه جهدا واسعا قلّ نظيره، تَـمَّ الاشتغال خلاله على مئات الآلاف من الوثائق والصور التي تؤرخ لأحوال بغداد، خاصة في العقدين الأولّين من القرن العشرين، وهي الفترة التي اختارها الأمين لتكون موضوعا لحديث الصورة والوثيقة.
وكانت فترة تحولات جسَّدَتْ، في حينها، إرادةَ مجتمعٍ رغِبَ له متنوِّروه، من مثقفين، ومصلحين دينيين، وساسة، وطبقة وسطى نامية، في أن يخرجَ من قرون الظلام الطويلة، ويخلعَ عنه أرديةَ التخلف والجهل، ويلتحقَ، من جديد، بركب التحضُّر والمدنية.

مثقفون عثمانيون

في حديثه عن مشروعه التوثيقي، قال الأمين “إن هذه التطورات السياسية جعلت الإمبراطورية العثمانية التي كان مركز ثقلها العراق مركّزة اهتمامها على الجانب العسكري، ففتحت مدارس عسكرية وحقوقية في إسطنبول وغيرها من المدن التركية، التحق بها أبناء الذوات من الأغنياء والباشوية وكانت هناك مجاميع من العراقيين يدرسون فيها. وتخرّج منها في ما بعد سياسيون وحقوقيون.

ولعب بعض الولاة دورا كبيرا في نهضة بغداد، منهم مدحت باشا، وفريد باشا، وخليل باشا، والأخير هو الذي أنشأ شارع الرشيد العراقي”. واستدرك قائلا “والغريب في الأمر أن العقل العراقي إلى حدّ الآن لم يجر دراسة علمية أكاديمية منهجية لهؤلاء الذين درسوا وتخرّجوا من هذه المدارس العثمانية، مؤكداً على أن جميع المثقفين العراقيين في المجال العسكري والحقوقي والأدبي والفني والتشكيلي وغيرهم تخرجوا من المدارس المذكورة”.

دولة مدنية

شغل كفاح الأمين بالتعريف الثقافي للتوثيق الصُّوَري، فموسوعته استعرضت القيمة الاقتصادية والفنية والاجتماعية البغدادية المرتبطة بتقاليدها وثقافتها، فهناك صورة لبغداد في 1903 تبين “الكفة” في نهر دجلة والى جانبها الأبنية والحياة خلال تلك الفترة في منطقة الكرخ والقشلة والميدان وبعض الأسواق وأزياء النساء والأطفال، وما تداخل فيها من الثقافات الإنكليزية والروسية والعثمانية على وجه الخصوص باعتبار العراق كان محتلاً من قبلها. كما ظهرت العمامة و”السدارة” والطربوش الذي يمثل في الثقافة العثمانية الزعامة ومعه العصا التي تمثل القوة.

قبل عام 1921 كانت هناك ثلاثة أمور مهمة هي إنشاء مدرسة الحقوق عام 1908 ودار المعلمين العالي 1923 والكلية الطبية 1928، وبذلك نلاحظ بوادر بناء لدولة مدنية. بينت بعض الصور وجود مراوح كهربائية في عام 1922، وثمة إعلان عن “فرقة كشكش المصرية” تقدم عرضاً عن شكسبير في مقهى عزاوي، وهناك مواقع خاصة للنساء والأطفال. وإعلانات أخرى عن المدارس، والمقاهي، والملابس، وبعد افتتاح المدرسة الجعفرية عام 1924 في بغداد انتشر الطربوش حتى صدر أمر ديواني في عام 1926 بإلغاء الطربوش والإبقاء على السدارة نتيجة الصراع ما بين العهد العثماني والعقلية العراقية الجديدة، فالزيّ تحول إلى صراع فكري.

قدّم كفاح الأمين موسوعته الفوتوغرافية عن بغداد بقوله “كلّما تأملت صورة والدي في الخمسينات من القرن الماضي مع أقربائه القادمين من الجبل في شمال العراق، أجد نفسي هائما وبنشوة غامضة في أعماق الصورة، في ذلك المنديل الأبيض على الجهة اليسرى من صدره، فبقميصه المفتوح وتلك الوقفة المقرونة بالأسئلة والاندهاش، ما الذي أراد والدي قوله في هذه الصورة؟

ما الذي أراد قوله في الصورة ذاتها، في تأملهم الحالم والمفرط في الدقة تجاه المصور الفوتوغرافي، في النسق الغريب لوقوفهم، هل هي صدفة وعفوية أم أنها توجيهات العين الملصلصة خلف الكاميرا! صورة واحدة تدفعك للتغلغل معها في الآلاف من الأفكار والتأويلات، صورة واحدة تدفعك من فوهة العالم الملامس لسطح الصورة الفوتوغرافية، من فجوة صغيرة ومضيئة في بيت الذكريات إلى زمن عملاق يضم ملايين اللقى الصورية في عقلنا المتحفز لاستكشاف تاريخه الشخصي وانعكاسات الماضي وسطوته. أتذكر ذلك بارتباك حلو وأنا أتصفح الآلاف من الصور الفوتوغرافية عن بغداد، تلك المدينة التي شغلت الدنيا بسحرها وتنوعها وثقافتها وترحالها في آلاف الليالي من التاريخ الكوني، أرتبك وأتأمل كلما لامست أصابعي حواف الصور الفوتوغرافية الجامعة لتاريخ مدينة كونية أذوب فيها كنيران البراكين وأذوّب”.

الحياة البغدادية

منذ أن أصبحت الصورة الفوتوغرافية تعيد إنتاج الواقع وطبعه على سطح أملس من الزجاج والورق وهي تتسلل بنشوة غامضة وطواعية في مفردات حياتنا اليومية، أعني الحياة البغدادية، فهي الحاضرة مع الضيوف في مساءات الشاي، وهي السيدة الوسيمة لقصص الحب والصداقة والذكريات، وهي الشاهدة الأبدية على تجاعيد الزمن في وجوه الإنسان والزمن ، إنها الأكثر حضورا وواقعية وإخلاصا للزمن والمكان والإنسان.
الاستعانة بالصورة الفوتوغرافية لتوصيف الحياة البغدادية تكتسب أهمية كبرى في معرفة تفاصيل عالمها وإيقاعها وصيرورتها خلال المئة عام الماضية، فالصورة الفوتوغرافية ملهم كبير لشحذ ذاكرة البغداديين، فهم عبرها يندغمون في المكان بوعي معرّف ولا معّرف كالماء في الماء، إنها كينونة السحر البغدادي تدفعهم للتلاشي في سرديات المكان، إنهم مشربون بنرجسية اللحظة التاريخانية البغدادية واشتغالات السرد المعنوي والمادي للمكان البغدادي ذاته كالشناشيل والمقاهي والشخصيات المفعمة بملامح أسطورية، قرّاء المقام والقرآن على الطريقة البغدادية، المربعات والمغنيات والشعراء، للحكايات المبثوثة في شقوق الجدران والمساجد والكنائس، ورموز أخرى مبعثرة في تلك الأواصر السرية للأزقة والبيوت المتهالكة على بعضها البعض.

حينما لجأت إلى الصورة الفوتوغرافية لاستعادة وتوصيف الماضي البغدادي وحاضره، ساورتني فكرة جدلية بغداد في كونها حاضنة لعناصر وأنساق متقطعة من التنوير في بدايات القرن العشرين، كون مجتمعها كان يرفل بالتسامح والاعتراف بالآخر، هذه العناصر والأنساق والرؤى الفكرية التي حاولت منذ تشكلها الولوج إلى عالم آخر عبر التواصل معه بعناصر المدنية والثقافة الحوارية والعصرنة واستلهام مفاهيم تراتبية الدولة مع الحفاظ على طابع بغداد المنوّع بكل أبعاده.

البغدادي في الصور القديمة الفوتوغرافية ليس منغلقا على ذاته أو متوجسا من الآخر، إنه ينتمي مع الآخرين الذين سيصبحون جزءا منه إلى المكان بحرية تامة، ذلك ما تفصح عنه الصور الفوتوغرافية حيث الأناقة والزهوّ والتنوع والرغبة الحميمية في الاكتشاف المتجدد للمكان والآخر منذ فترة مبكرة من تاريخ العراق المعاصر.

أحد الجسور الثلاثة التي شيدها النظام الملكي بين ضفتي دجلة في سبعينات القرن الماضي

الصورة الفوتوغرافية

لقد كان للصورة الفوتوغرافية بمختلف وظائفها دور مهم على مستوى كونها أداة للتفاعل الاجتماعي بحيث أن كثيرا من الأحداث الهامة في حياة بغداد كالتحولات في نسقها وعمارتها وثقافتها كانت تجد صدى لها عبر الصور مثل مصالحة الشاعرين الكبيرين الزهاوي والرصافي الشهيرة والتي جمعتهما في صورة واحد مع علية القوم من وزراء وشخصيات بغدادية معروفة، أو صور شارع الرشيد التي كانت أيقونة عصرها.

تحولت الصورة الفوتوغرافية في المجتمع البغدادي منذ العقد الثاني من القرن العشرين إلى “ظاهرة بغدادية” ألفها المجتمع وتبناها مما جعل الكثير من البيوت والشخصيات البغدادية ترفل بيوتها بالألبومات والصور الفوتوغرافية المختلفة والتي دفعت المصورين الفوتوغرافيين إلى الإعلان عن بيع صور فوتوغرافية منوعة وبقياسات مختلفة في محلاتهم التي انتشرت في بعض الأحياء الشعبية.

إن الصورة الفوتوغرافية تشكل مصدرا مهما وموضوعيا في فهم ودراسة تاريخ مدينة بغداد المعاصر، وتطور بنيتها الاجتماعية والثقافية إذ أنها رصدت جلّ تحولات المكان البغدادي وأنماط شخصياته ونزوع شرائحه المختلفة بهذا القدر أو ذاك إلى التجديد والاكتشاف.

وختم الأمين قوله “ضمن هذه الرؤية حاولت جهد الإمكان أن أرفد هذا الكتاب بالصور الفوتوغرافية والوثائق المنوّعة المعنية ببغداد وتاريخها وتحولاتها، معتمدا على منهج البحث والتقصي في أصل المعلومة ومحاولة إعادة بنائها عبر الوثيقة الأصلية أو الصور الفوتوغرافية الأصلية التي تعكس مظاهر بغداد في زمنها، وقد اعتمدت على الأرشيف البغدادي المتناثر والذي يقدر بمئات الالوف من الصور الفوتوغرافية التي في حال جمعها وحفظها وتبويبها ستؤدي إلى اكتشافات مذهلة في تاريخ بغداد المعاصر وتحوّلات مكانه وشخوصه.

التاريخ يتنفّس في روح الصورة الفوتوغرافية، هذا ما أحس به وأتلمّسه في مسامات الصور الفوتوغرافية البغدادية، فأيّ سعادة تضاهي سعادة الامساك بتاريخ بغداد في قلبك!”.

 

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى