الفيل يحتفي بالأميرين .. العم والخال

أحمد فضل شبلول

في سنوات متقاربة رحل شاعران من أهم شعراء العامية في مصر وهما العم أحمد فؤاد نجم (1929 – 2013)، والخال عبدالرحمن الأبنودي (1938 – 2015) اللذان أثريا الساحة الأدبية والثقافية بقصائدهما وأغنياتهما وندواتهما وبرامجهما التلفزيونية والتحامهما بالجماهير والأحداث الكبرى سواء السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية، فمن ينسى مشاركة الخال بأشعاره في بناء السد العالي من خلال قصائد ديوانه الشهير “جوابات حراجي القط”، وقصيدته “الاستعمار العربي” بعد غزو صدام للكويت، وأغنياته الشهيرة “عدوية” و”على حسب وداد قلبي” و”الهوا هوايا” وغيرها الكثير.

ومن ينسى أعمال الفاجومي أحمد فؤاد نجم “يعيش أهل بلدي” و”كلب الست” و”نيسكون جاء” و”دولا مين” وما تغنى به الشيخ إمام ومحمد الحلو وعزة بلبع وغيرهم.

وليس هناك شك في أن هناك جوانب مشتركة تجمع بين الشاعرين، كما أن هناك جوانب فارقة بينهما، فلقد كان لكل شاعر عالمه الخاص الذي لا يخفى على جماهير الشاعرين سواء في مصر أو في الوطن العربي.

وقد التقط الكاتب والشاعر محمد ياسين الفيل هذا الخيط ليصدر لنا عمله المهم عن الشاعرين اللذين اجتمعا في كتابه “الأميران .. العم والخال”، ويرى الفيل أن العم ينتمي إلى مدرسة اللفظ، مدرسة المتمرغين في الفقر والمقصيين والمهمشين وتخرج فيها حتى صار عميدا لها متربعا على قمتها، بينما ينتمي الخال إلى مدرسة الصورة والخيال وتخرج فيها حتى صار عميدا لها متربعا على قمتها.

وقد تأكدت زعامة العم في شعر العامية الذي يشكل فيه اللفظ عموده الفقري، أما زعامة الأبنودي وتفوقه وتميزه فولت وجهتها جهة الشعر الغنائي الذي تلزمه الصورة ولا يقوى إلا بالخيال، وبهذا تفوق الخال – كما يرى الفيل – على نجم في الشعر الغنائي والعكس صحيح.

ويؤكد الفيل أن العم والخال بما خلفاه وألَّفاه قد ارتفعا بشعر العامية ووضعاه في مكانه وتركاه على محجة تساوت معها الرؤوس بينهن وبين شقيقه الأكبر شعر الفصحى.

وبعد مقدمة راصدة يكتب الفيل عن البورتريه الشعري لحراجي القط وأزمة ومصير الإنسان في زمن العولمة حيث يتناول الرسائل التي كتبها الأبنودي في هذا الديوان الذي واكب زمن بناء السد العالي موضحا أن الخال ظل مرتديا ثوبه الجنوبي باسطا إياه في دلالة وتأكيد على قدرته في توظيف المفردات البيئية المكانية كنصوص وافدة انصهرت في النص المستقبِل وصارت جزءا من مادته ونسيجه ولبنة من لبناته.

أما ديوان “وجوه على الشط” فيرى فيه الفيل وجه الوطن وثنائية الإقامة بين “الوجوه” والتلابيب، موضحا أن هذه الوجوه واحدة من متعلقات مصر الشخصية، شأنها في ذلك شأن المسلات الفرعونية والقناع الذهبي لتوت عنخ ورسائل الفلاح الفصيح والسلام الوطني وتمثال النهضة لمختار وثلاثية نجيب محفوظ وكشكول الجمسي وأغاني أم كلثوم وموسيقى بليغ حمدي والسنباطي وعبدالوهاب، لذا فهو (أي الديوان) غير قابل للتداول عليه بالبيع أو بالهبة، وجميعه خطوط في بصمة إبهام الوطن، يميزه ويرتفع به في عليين. إن وجه الوطن يولد من بين جملة (الوجوه) ويخرج من بين طيات و(تلابيب) الأرض.

ويرى الفيل أن الخال بسطره الشعري وتفعيلاته الموسيقية وتراكيبه المشهور بها وعبارته القصيرة وتشبيهاته الخضراء التي تشابهت في ملامحها وأثرها بالأمثال ومواد الدساتير، قد أضافت للموروث الشعبي نوعا آخر له، يجوز ان نطلق عليه “الموروث الشعبي الشعري”.

ويرصد المؤلف ألوان الخال في هذه الوجوه وهي لم تخرج عن اللون الأزرق لون الهدوء والثقة والصمود والشموخ، واللون الأخضر الدال على النمو والتكاثر، واللون البنفسجي الرامز للطهر والطاعة والصفاء والتواضع، واللون الزهري لون يقينية النصر والمحبة والفطنة والحكمة، واللون الأبيض لون نور الوشوش وقلوبها.

موضحا أن لوحة وجه الوطن خلت في هذا الديوان من اللون الأسود لون الفناء والموت والعدم، ومن الكحلي لون الكره والحزن، والبرتقالي لون التخلي والخسة والخيانة ومرادفاتها.

ويذكرنا الفيل بوجوه الخال التي على شط القنال ومن بينها: إبراهيم أبوالعيون، وبراهيم آب زعزوع الذي يقول:

آخر حاجة اتصورها

إن احنا نبقى محتلين

وكمان نعقد ساكتين

وفتحية آب زعزوع، ومحمد عبدالمولى، والبت جمالات، وأم علي، وعلى آب سلمى، والحاج أب سلمى، وعلي أبوالعيون الذي يقول:

احنا دلوقتي بلد مجروح

كيف بس ترد ف زورنا الروح

إلا ان قمتوا؟

والا راح اقول ان بلدنا في ذاك العصر

ما كانتشي مصر

ويعلق الفيل على هذا الوجه بقوله: “إنها روعة نظم اللآلئ في عقد العامية المصرية”.

أما وجه عبدالرحمن عبدالمولى فيقول:

إن عاش الجيش حنعيش

وان مات الجيش حنموت

ويرى الفيل أنه بطبيعة الحال من الصعب التعرض لكامل أعمال الخال في دراسة نقدية واحدة، فركز على الجوابات والوجوه، وإن كنت أرى أن أغاني الأبنودي كانت في حاجة إلى وقفة أخرى من محمد ياسين الفيل لما في هذه الأغنيات من إضافة الى رصيد الأغنية المصرية والعربية، ومن إضافة إلى الوجدان الإنساني.

• العم أحمد فؤاد نجم

أما العم أحمد فؤاد نجم فقد أطلق عليه الفيل أمير شعراء التحريض والكتابة (بالخدش والاشتباك) وأنه أمير شعراء الخندق الذي نلوذ بهم لنحتمي من قذائف الباطل وهو النبع الذي نتزود به حتى نستطيع الاستمرار في الصمود والتحدي بعيدا عن أرض المعركة وداخلها في الوقت ذاته، وهو أمير شعراء استنهاض الشعب وفضح المعتدي وتعرية الخونة والإشادة بالأبطال والإتصاف بالصبر والتضحية.

هذه إمارة العم نجم وحدودها ومساحتها، إذن فالعم نجم هو أمير شعراء التحريض والاحتجاج الشعبي الذي خلق بشعره حالة احتجاجية اجتماعية ثورية.

ويشير الفيل إلى أن عناصر العملية التحريضية لدى العم تتكون من: فعل الرصد، وفعل التحريض بعناصرة الثلاثة (الاشتباك والخدش والأفعال الآمرة) ويقينية النصر والتبشير به.

وهذه العملية التحريضية وبرغم اكتمال عناصرها بكتابات العم، لم يكن لها أن تؤتي ثمارها، وما كان للعم أن يتحصل على صك براءتها وإماراتها الشعرية إلا بمجموعة من الأدوات، منحته صك التفرد وبايعته بإمارة شعراء التحريض، يضاف عليها وإليها، موقفه الثابت بخندق الهوية ويسار السلطة، هذا التترس الذي لم يهن يوما أو تزعزع أو خف صدامه، والذي زادت كلفته على العم، ثمانية عشرة عاما قضاها بالسجون والمعتقلات والليمانات.

ويورد الفيل عددا من القصائد الشهيرة للفاجومي محللا إياها ومتوقفا عندها بالتأمل والشرح مثل: اصحي يا مصر، وخبطنا تحت بطاطنا، واحنا معاك، ورسالة من المخلوع لبوتن، ومحكمة، وفلسطينية، وع اللي حاصل، وغيرها.

يقول العم في قصيدة “دولا مين” التي تغنت بها سعاد حسني:

دولا مين ودولا مين

دولا عساكر مصريين

دولا مين ودولا مين

دولا ولاد الفلاحين

دولا الورد الحر البلدي

يصحى يفتح اصحى يا بلدي

دولا خلاصة مصر يا ولدي

دولا عيون المصريين

دولا مين ودولا مين

ويختم الفيل الجزء الخاص بالعم بأن قصائده تقوم على الإفراد والتركيب (اللفظ والجملة الشعرية) وتشير دلالته الأسلوبية على سيطرة الجملة الفعلية والوصفية الراصدة، على البناء المعماري للغالب من نصوصه، كما تؤكد دلالته الرمزية على أن التشبيه التمثيلي والاستعارة هما السمة الأولى والثانية بوسائله التعبيرية التي حافظت على عدم الانحراف بالمعنى حيث استطاع العم الحفاظ على الواقع النفسي والحياتي الذي نجح في رصده والتأثير فيه بعد أن تأثر به وانصهر بداخله.

موضحا أن تكرار اللفظ في الشائع من قصائد العم كما أسلفنا لم يأت اعتباطا، إنه لون من الابتهال الذي تعرفه التجارب الدينية والصوفية منها على وجه الخصوص، فلا ملل في التكرار في الاسم أو الوصف أو الرصد أو الضمير الدال عليه.

 

(ميدل ايست اونلاين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى