صلاح فضل: الرواية تواصل الانفجار وأزمة الشعر في الشعراء

محمد الحمامصي

يعد الناقد صلاح فضل واحدا من النقاد القلائل الذين يتمتعون بحيوية وفعالية الحضور على الساحة النقدية والثقافية العربية، فهو يواصل قراءاته ومتابعاته وتحليلاته حاضرا بقوة داخل المشهد الإبداعي والفني من رواية وشعر ومسرح.
وتحتل مؤلفات فضل في المجال النقدي مكانة متميزة حيث تجمع بين التنظير النقدي والتطبيق، ومن أهم هذه المؤلفات: “نظرية البنائية في النقد الأدبي”، و”منهج الواقعية في الإبداع الأدبي”، و”تأثير الثقافة الإسلامية في الكوميديا الإلهية لدانتي”، و”علم الأسلوب: مبادئه وإجراءاته” وغيرها الكثير من المؤلفات النقدية المهمة، والتي خولت له الحصول على عدد من الجوائز سواء في بلده مصر أو خارجه مثل جائزة البابطين للإبداع في نقد الشعر في عام 1997، وجائزة الدولة التقديرية في الآداب في عام 2000، وأخيرا جائزة سلطان العويس في دورتها الرابعة عشرة 2014 ـ 2015.
أزمة التطبيق

الشكوى من النقد ومن تراجع الحركة النقدية تزداد يوما بعد آخر وما من حل، عن رأيه في الأسباب التي جعلت من هذه الشكوى شكوى دائمة لا تتوقف، يقول صلاح فضل “صحيح دائما كانت هناك شكوى من النقد، وهذه الشكوى حقيقية، وللأسف في كل مرحلة من المراحل تزيد أسبابها، أذكر أنني كنت مكلفا أثناء إعدادنا لموسوعة أعلام العلماء والأدباء العرب والمسلمين بحصر عدد النقاد في العصر الذهبي الأول، ففوجئت أنهم لا يتجاوزون ثلاثين ناقدا، إلى جانب شراح الأدب واللغويين والمؤرخين، بينما كان عدد المبدعين من الشعراء أضعاف ذلك، في العصر الحديث سنجد أن عدد من اشتهروا ولهم تأثير وفعالية من النقاد قليل، ولعل هذه الظاهرة تعود إلى أن الناقد مثل النبي، لا يستطيع أن يتأهب قبل أن يصل سن الأربعين، ولا يستطيع أن يكون ناقدا حقيقيا ما لم تتوفر فيه شروط. فالمبدع يمكن أن يكون في صباه مبدعا عظيما خلاقا شاعرا، والروائي يحتاج إلى قدر من النضج، لكن الناقد إن لم يمتلك رقبة وزمام تراثه ورقبة وزمام التراث العالمي، والتيارات الفلسفية الفاعلة في حركة الإبداع، والتطورات التاريخية والفكرية، ونظرة ثاقبة مثل عين الصقر تستطيع أن تلتقط الموهبة الحقيقية الضائعة وسط المئات من الإمكانات المتوسطة والدافئة، إن لم يمتلك كل ذلك سيكون محدود الأثر وعديم الجدوى، ولا قيمة له”.

يتابع ضيفنا “لدينا في تقديري أزمة حقيقية سببها الجامعات المصرية التي توقفت حركة الابتعاث فيها إلى المراكز العلمية الغربية منذ ما يربو على نصف قرن – منذ ستينات القرن الماضي – حيث توقفت البعثات، والناقد الحقيقي لا بد أن يمتلك لغة أجنبية واحدة على الأقل، وجسرا متواصلا مع اللغات الأجنبية، فالاعتماد على الترجمة لا يشكل عقلا نقديا، لأن الترجمات ناقصة ومبتورة، وتخضع لسوء الاختيار دائما، يعني أمهات الأعمال النقدية الكبرى لم تنقل حتى الآن للغة العربية، شذرات منها ومحرفة، ولكي يستطيع ناقد أن يتقن لغة قراءة وكتابة وهو في موطنه، هذا عسير جدا، لم يفعله إلا محمود عباس العقاد، هو الوحيد الذي امتلك ناصية اللغة الإنكليزية دون أن يغادر مصر، الآخرون ممن امتلكوا هذه الروح العصامية بلغوا مستويات متفاوتة في الصدد، فإغلاق باب البعثات في العلوم الإنسانية والأدبية والفكرية والتيارات الفلسفية والنقد على وجه التحديد في الجامعات المصرية أدى إلى سد منافذ التكوين الحقيقي للنقاد الرواد”.

ويرى الناقد أن هناك بعض الشباب يبذلون جهدا كبيرا لكي يتجاوزوا هذه العقبة ويحاولون الترجمة، لكن في رأيه يبقى هذا الجهد النقدي محصورا في نطاق البيئة المحلية رغم سهولة ويسر الاتصالات الرقمية الآن من خلال الإنترنت، وذلك لا يوفر الكتب المهمة التي تتطلب دراية واسعة ومباشرة.

من جهة أخرى يوضح فضل أن باب المغامرة الذي سد في وجه النقد العربي المعاصر في مصر والمشرق، سنجد أنه مازال مفتوحا نسبيا في وجه المغاربة ـ المغرب والجزائر وتونس ـ لأن علاقتهم اليومية وترددهم على فرنسا وألمانيا والدول الأوربية الأخرى يسمح لهم بالاطلاع أكثر على المنجزات النقدية، لكنهم، في رأيه، يفتقدون شيئا أساسيا وهو التجذر في صلب نسيج الفكر العربي واللغة الحداثية المتطورة فيه، فحتى عندما يعرفون شيئا قيّما فإنهم إذا حاولوا أن يترجموه خانتهم لغتهم أحيانا، وشغفوا بأشياء لا جدوى منها.

يقول “مثلا أعرف وأنا على علاقة صداقة حميمة ببعض النقاد المغاربة والتونسيين والجزائريين، أن بعضهم مولع بالغموض الشديد جدا فأبسط المناهج اليسيرة الجميلة تتحول في قلمه إلى لوغاريتم يصعب فك لغزه، وبعضهم الآخر ليس لديه قدرة كبيرة على الاستيعاب النظري والتطبيق العملي، وهم يفتقدون في المغرب العربي عموما ـ وهذا نقد لهم ـ لرصد الظاهرة وفقا لبصيرة نقدية تطبيقية، أما المبدعون منهم فيحتاجون إلى مثقفين مشارقة لكي يضيئوا أعمالهم، لأنهم قد يتملكون زمام الأفكار الكبرى لكنهم لا يعرفون ـ في مجملهم ـ كيفية تبيئتها ولا تطبيقها على الواقع الإبداعي”.
“البوم” العربي

يظل التراث النقدي العربي في مصر بسلاسله الذهبية منذ طه حسين وأحمد أمين إلى محمد مندور ولويس عوض وعلي الراعي، إلى الجيل الحالي، هذه السلاسل الذهبية هي التي سوغت وذوبت الفكر النظري في إبداعات نقدية جعلت لأدبنا قيمة وحفظت له مستواه، وبلورت رؤاه، تطرح علينا التساؤل حول الجيل الحالي، ويعلق صلاح فضل قائلا “هناك جيل جديد في دور الخمسينات أو حولها موهوب نقديا، لكن هذا السؤال على وجه التحديد يجعلني أضع يدي على سبب عدم احتلالهم لمواقعهم وآدائهم لرسالتهم، الإعلام يضيق كثيرا، أنت تعرف أن المقال النقدي للعقاد وطه حسين حتى مندور ولويس عوض كان يحتل صفحة كاملة في كبريات الصحف اليومية، لأن هذه هي الصحف المقروءة فالمجلات لا يقرأها إلا القلة، كونها تخاطب طبقة خاصة جدا. دعني أسأل سؤالا: ما هي الصحيفة المصرية التي يملك رئيس تحريرها وعيا نقديا ورؤية ثقافية وقدم الدعوة لأحد أبناء هذا الجيل ليكتب في صحيفته؟”.

يتابع “المنافذ الإعلامية لدينا نتيجة لتدني المستوى الثقافي للقائمين عليها هي التي تحبط في الدرجة الأولى الحركة النقدية في مصر، أنا أعرف ما لا يقل عن عشرة من الشباب الناضجين من أساتذة الجامعات وغيرهم من الموهوبين في الحياة العامة من غير الأكاديميين، يستطيعون أن يقدموا مواكبة نقدية مزدهرة جدا ولامعة جدا ومؤثرة جدا وفاعلة إلى أقصى درجة، لو أتيح لهم ذلك إعلاميا، لكن لا يتاح لهم هذا، إن عنق الزجاجة الوسيط بين الكاتب وبين الجمهور هو هذا الوسيط الصحافي على وجه التحديد، وهو الذي أتهمه بأنه يجهض الحركات الفكرية والنقدية في الأدب، قد يتسع لبعض الإلماعات الإبداعية لكنه لا يجيد اختبارها، المشكلة ليست في نشر مقال نقدي فقط، المشكلة أنه لنفرض صحيفة من هذه الصحف قررت أن تنشر نصا شعريا أو قصة قصيرة أو غير ذلك من النصوص، ليس هناك من بين القائمين على الصحافة والصفحات الأدبية في هذه الصحف من يحسن اختيار المادة المنشورة وتكون النتيجة أن الوعي ـ عندما يسيء الاختيار وينشر عملا ضعيفا ودون المستوى ـ يفسد الذوق العام ويفسد المعايير النقدية ويضر بدل أن يفيد”.

تابع صلاح فضل المشهد الروائي في أكثر من كتاب صدر له أخيرا منها “سرديات القرن الجديد” و”أحفاد محفوظ”، وهذان الكتابان كل منهما يتضمن على الأقل 50 مقالا، معنى ذلك أنه قدم مئة مبدع روائي من جيل الكتاب الكبار والشباب ومن الروائيين العرب، ويعتقد فضل أن من يريد أن يرسم خارطة للإبداع الروائي سوف لن يجد أوضح من هذين الكتابين، رغم إقراره بأنه قد يكون فاته الكثير، وما أدركه أقل مما جهله، لكن هو هذا الجهد المنتظم، في رأيه، حيث الانتظام هنا أساسي، في متابعة عمليات الإبداع الروائي، ومحاولة تقييمها، ولا ينفي الناقد أن أعمالا جيدة وجميلة لم تصل إلى يديه أو لم يتسع لها جهده ولا طاقته ولم يكتب عنها، لكنه لم يكتب إلا ما وجده بالفعل موضوعيا ونقديا في كتابته عن الأجيال الثلاثة من الكبار ومن الأوساط ومن الشباب.

عن المشهد الروائي اليوم يقول صلاح فضل “في الإبداع الروائي لا نستطيع أن نشكوا فقرا، بل على العكس نستطيع أن نشكو من الغزارة والتدفق والخصوبة والنماء والثراء الذي يضمها المشهد، سنجد عدد المبدعين يصل إلى المئات كمًّا، وسنجد مستويات إبداعية هائلة عندما تترجم هذه الأعمال إلى لغات أخرى يمكن أن يكون لها نصيب من الذيوع العالمي. فالرواية تحمل ميزة عجيبة جدا، أولا هي الوسيط ما بين الفن اللغوي وفنون الصورة، إذا قبضنا بأيدينا على نص روائي جيد فلدينا فيلم سينمائي محتمل جيد، ولدينا مسلسل تليفزيوني محتمل جيد، بين تنويعات فنية أخرى مثل فنون الصورة تترتب على الرواية الجيدة، ولدينا أيضا جرعة شعرية عالية، لأن الروايات عندما تصل إلى مستوى عال من النضج، فإنها لابد أن تتضمن تكثيفا وعبقا شعريا حقيقيا، فالرواية يمكن اعتبارها مجمع الفنون، وببساطة يمكن أن أبرر هذا مثلا بالقول لو اتخذت فنانا تشكيليا بطلا للرواية سوف تكون الرواية درسا في الجماليات التطبيقية للفن التشكيلي، ولو اتخذت موسيقارا بطلا للرواية لابد أن أدرب أذنا على أن تستقبل الألحان وطبقاتها ومستوياتها ومقاماتها، وهكذا”.

يرى ضيفنا أن مسيرة الرواية العربية تواصل صعودها، بل يؤكد أنها في تواصل انفجاري وليس في صعود فحسب، فالرواية العربية، في رأيه، تمارس الآن ما مارسته رواية شعوب أميركا اللاتينية في العقود الأخيرة من القرن العشرين، عندما مرت بها ظاهرة أطلق عليها “البوم” أي الانفجار، انفجار روايات أدب أميركا اللاتينية، في العقود الأخيرة من القرن العشرين ضمن لأربعة أو خمسة روائيين من أدباء أميركا اللاتينية أن يحصلوا على جائزة نوبل، وضمن لإبداعهم أن يترجم إلى كل اللغات الأخرى، ويظن فضل أن الرواية العربية الآن في حالة “بوم” آخر مناظر للـ “بوم” اللاتيني. وهو انفجار حقيقي وليس زائفا، كما يقول ضيفنا، مستشهدا على ذلك بأن هناك أعمالا تدهشك، وهي أعمال من مختلف الأقطار العربية، إذ نفاجأ أحيانا بأعمال من عواصم عربية حيث لم نشهد بزوغ نجم روائي فيها قبل ذلك، تلقي إلينا بكواكبها، فإذا بها بالغة التألق والجمال والنضج فعلا.
الشعر الجديد

أما المشهد الشعري فيشير صلاح فضل إلى أنه بخلاف الروائي، لأنه لدينا حروب لم يستطع معها الشعراء في تحمسهم للأشكال الشعرية المتفاوتة إقامة سلام بينهم، ويذكر أنه عندما جاء شعراء قصيدة التفعيلة مثلا في منتصف القرن، لم يخطر في بالهم على الإطلاق أنهم سوف يلغون تاريخ الشعر العربي في القصيدة العمودية، وتعايشوا مع القصيدة العمودية، بل إن بعضهم تحدى شعراء القصيدة العمودية وكتب فيها بأقوى مما كان يفعل شعراؤها، لكن كان موقف الشعراء العموديين مضادا لذلك، إذ كان منكرا لشرعية الشعر الحر أو شعر التفعيلة، وحدثت الكثير من المعارك في الخمسينات واستمرت عدة عقود.

يقول الناقد “لقد تبلور لدينا في العقدين الخامس والسادس من القرن العشرين تياران متدابران، القصيدة العمودية من ناحية وقصيدة التفعيلة من ناحية أخرى، وابتداء من السبعينات نبت جيل من الشياطين الجدد من الشعراء وهم شعراء قصيدة النثر، وكان المأمول منهم أن يمثلوا تيارا رافدا للتيارين الرئيسيين العمودي والتفعيلي، فإذا بهذا الجيل يفتح الباب أمام جحيم جديد، إذ صار اليوم كل من يستطيع أن يكتب سطرين فيهما شيء من الخيال والافتتان اللغوي ادعى أنه شاعر”.

يتابع ” الرواد الأول لقصيدة النثر كتبوا فيها نصوصا بالغة الجمال والتركيز، وكنت أتساءل عندما أحلل بعضها ماذا ينقصها لكي تكون شعرا كاملا، لأنها استطاعت أن تضع يدها على إيقاعات خفية تعوض الإيقاعات الظاهرة في قصيدتي العمود والتفعيلة، لكن دخل جيل آخر من الشباب الذين لم يتقنوا تراثهم الشعري العربي ولم يحفظوه، لتوليد طاقة شعرية في اللسان العربي، لم يقرأوا التراث الشعري العالمي بلغاته المختلفة حتى يتصورا الآفاق الشعرية العظيمة، لم يقرأوا حتى شعرا مترجما أو في لغاته، وظنوا أن بوسعهم أن يكونوا شعراء دون أن يمتلكوا أي معرفة بقوانين الشعر وأصوله وتقنياته الفنية، هؤلاء جريمتهم تتمثل في أنهم أسقطوا الشرعية الشعرية لدى المتذوقين ووضعوا فاصلا عميقا، أصبحوا يقرأون لبعضهم، وتباعدوا عن الجمهور”.

 

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى