هاني مظهر رسام المرويّات بتجلياتها البصرية

فاروق يوسف

يفكر هاني مظهر في الجمال لذاته لا في أسبابه. الرسام العراقي الذي لا يزال مصراً على تشخيصية قريبة من تيار الانطباعية الجديدة يعتقد أن رمزية حكاياته ممكنة من خلال تذكر أشكال النساء اللواتي توله بهن. يرسم ليتذكر ما هو قابل لأن يكون موضوعاً للتخيل. لا بأس أن تكون يومياته مجموعة متلاحقة من الصور التي تمثل وقائع، بعضها لم يقع إلا حين الرسم، غير أن الرسام يعتبره نوعاً من الاستعارة من ماضٍ لم يعشه أحد. وهو ماضٍ لا يزال ممكناً خيالياً بسبب نسائه.
هاني مظهر في معرضه شجرة العاشق (قاعة دن/الكويت) الذي افتتح قبل أيام يكتب سيرة للنساء اللواتي شغف بهن عبر مغامرته حياته، عابرة القارات. هي سيرته الشخصية وقد تعب من الحروب التي لم يكن طرفاً فيها، غير أنه يرفض أن يكون ضحيتها، فكان عليه أن يجعل منها موضعاً لدعاباته السوداء من خلال رسومه الصحافية الساخرة وذلك موضوع آخر.
في كل لوحة يرسمها مظهر يسعى إلى المزج بين حياتين، كما لو أنه يحاول أن يوهم المتلقي بأنه لا يزال يقف في المنطقة التي تفصل الخيال عن الحقيقة. «لم استيقظ بعد، غير أن ما ترونه ليس حلماً»… يمكن لجملته أن تمتزج بمرويات شهرزاد في الليالي العربية بخفة كما لو أن رسومه تسعى إلى تجسيد تلك المرويات. هل بلغت جرأته على الرسم لكي يتخذ منه فضاء للتعبير عن عواطفه التي صارت جزءاً من ماضيه.
هو إذاً يفتح صندوق أسراره في هذا المعرض الذي تفوح منه العطور الشرقية. وهي عطور لا تفارق فم الراوي الذي يستبدل الكلمات بالرسوم.
شجرته وهي شجرة العاشق من غير جذور. فالرجل الذي عاش الجزء الأكبر من حياته لا يمكنه أن يثق بشيء يربطه بأرض ما. لقد حملته الحكاية بين سطورها ولم تتسنَ له فرصة أن يضرب بقدميه على الأرض. كان الرسم بالنسبة اليه كما الحياة فعلاً متخيلاً، ونوعاً من الكلام الفائض الذي يمر كما الهمس من غير أن يجرح.
يستقوي هاني مظهر بنسائه على المنفى.
هنّ سيده الأخير الذي يؤكد أنه عاش حياة ملأها الترف برخائه.
«لقد عشت» هذه هي حكمته. جملته تكتمل من خلال النظر إلى نسائه الجميلات اللواتي استحضرهن ضيفات لحفلته من أجل أن ينهي فصلاً من حياته، مُلهَماً بما سحره من مكر الحياة. وهي حياة يمزج مظهر فصولها بالطريقة نفسها التي يمزج بها الأصباغ، بعضها ببعض لكي يصل إلى الدرجة اللونية التي ترضي غروره البصري.
لا شيء مما عاشه يمكن أن يعد بالجمال مثلما تفعل تلكم النسوة اللواتي يرسم صورهن باسترخاء، غير مبالٍ بالسؤال الذي يتعلق بهوياتهن. فالمرأة هي المرأة. تعريفها يحضر مثل عطر ليغيب. يحاول الفنان أن يبقي شيئاً من ذلك العطر نوعاً من الذكرى. وهو ما يزيد من تعقيد عمل الرسامين. ذلك لأن هناك مَن يكتفي بالعطر فيذهب إلى التجريد. غير أن هاني مظهر وهو المغرم بالحكايات يستحضر بغداده البعيدة بعد أربعين سنة من الفراق على هيئة امرأة شغف بها في لحظة تقع بين النوم واليقظة.
يرتجل هاني مظهر نساءه كما يفعل الموسيقي مع الأنغام التي تصدر من آلته. يحب أن يصدق يده وهي تتخيل ليبعد عنها الألم. من طريق الحب وحده يمكننا أن نستعيد ماضينا بوضوح. وهو ما أخلص له مظهر وهو يضع نساءه على سلمه الموسيقي.
ينتمي هاني مظهر المقيم في لندن منذ أكثر من ربع قرن إلى جيل السبعينات العراقي وهو الجيل الذي يعــتبر آخــر الوارثيــن لتـــــقاليد الرسم الحديث في العراق. بعده حدث الخراب الذي لا يزال مســــتمراً حتى اليوم. شيء من ماضي الحداثة الفنية الذي يحرص مظهر على أن يكون مخلصاً له.

 

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى