تجاوز مظاهر الأشياء نحو السّكون والتأمل المطلق

ت: محمد أبو العطا

بمناسبة الذكرى 112 لميلاد الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس، أصدر المركز القومي للترجمة، ترجمة عربية لديوان «مديح الظل». يجسد بورخيس في هذا الكتاب، الإنسان، كما العالم شعرياً، ولكن على مشارف النضج، والأفول، يحتفي بالظلال، وباللغة التي تبقى على حافة الكون، هي المعنية بالظل، أو بالهامش، ليس ثمة تجرؤ على احتلال المتن، وليس ثمة فيض من اللغة بطابعها المجاني، أو العبثي، فقط احتفاء بالقليل، والأدنى، والهش، والبسيط، ثمة أسئلة، وليس ثمة إجابات، ليس هنالك من ادعاءات بخلاصات كونية، فقط محاولة لترك أثر، علامة، تمارس حضور الذات بعد الغياب المرتقب.

كتب بورخيس ديوانه «مديح الظل» في السّبعين من عمره، وتحديداً في الفترة الواقعة بين عامي 1967- 1969.. وبعد أن بات الظلام مبعثاً للراحة، فمع تبدد بصره أمسى بورخيس مأخوذاً بالعالم، لقد أصبح أشد تأملاً، لقد كان مدركاً للعالم الدهليزي، كما في قصته «مكتبة بابل»، أو لروح الكلمات التي لا تنتهي، ولفضاء الكتابة المتولد من الجزء إلى الكل، وبالعكس.

على أعتاب السّبعين يدفع بورخيس بديوانه هذا إلى المطبعة، غير أن ناشره يطلب منه أن يضمّن المقدمة بياناً حول أسلوبه الشعري، غير أن بورخيس ينفي عن ذاته الشعرية تهمة القيمة الأسلوبية، بوصفها زيفاً لا يدعيه، ومع ذلك، فهو يأتي ببضع كلمات تختزل منظوره الذي على ما يبدو توصيفاً للكتابة اليوم، ولعله يختزل آفة الكتابة باستهلاكيتها الرّأسمالية، ولا جدواها الأيديولوجية كونها ثرثرة لمن يتخطون الصفوف ليعلنوا أنهم شعراء، ولكنهم بلا أرواح (الكلام لكاتب المقالة).

يقول بورخيس «اقترح عليّ كارلوس فريباس أن أنتهز مقدمة الديوان كي أقدم بياناً بأسلوبي الشعري، لكن فقر إرادتي يرفضان هذه النصيحة، ليس لي أسلوب شعري، لكن الزمن علمني بعض الحيل منها: تجنب المترادفات التي يعيبها الإيحاء باختلافات متخيلة؛ وتفادي التعبيرات الإسبانية والأرجنتينية والقديم والغريب منها؛ وتفضيل الألفاظ المألوفة على المثيرة والمدهشة؛ وتمضين ملامح عارضة راح القارئ يطلبها الآن في قصصي؛ والتظاهر بشكوك صغيرة؛ لأن الواقع إذا كان محدداً فإن الذاكرة ليست كذلك؛ وسرد الأحداث كأنني لا أفهمها تمام الفهم».

هكذا تنبثق في كلمات قليلة أسئلة العوالم المتشككة، والرغبة في جعل الشعر عالماً رحباً مليئاً بالقلق والحدس، ثمة دعوة إلى الشّعرية بالمطلق، لا الدعوة إلى ادعاء الشعر… كما يقول بورخيس في موقع آخر.

ولعل المتأمل في الديوان سيجد أصواتاً متجردة من البحث عن الحقائق الكبرى، وقيمه، فقط العالم المتجسد بذاكرة الكلمة، لن يجد القارئ سوى أشعار تحتفي بالحنين التأملي، وغموض الحياة، كل هذه الأسئلة التي تتوق الروح لمعانقتها عند قراءة الشعر، فالشعر ما هو إلا مساحة للتخفف، للولوج إلى عالم آخر، ليس الواقع، ولكن الروح المتشككة الباحثة عن ألفة الكلمات، وغرابتها في آن.
في القصيدة الأولى نقرأ بياناً بما يكون الإنسان فقط، في الحضور الشفيف والزاهد، أي ذلك الإنسان الذي تخلص من غروه، أو بعبارة أخرى «الحيوان» الذي بداخله كي يكون كائناً إنساناً فقط، لا شيء أكثر، ليس ثمة دعوة إلى الاكتمال، إنما القصيدة التي تحتاج إلى من يكملها، كما قال محمود درويش. إن روح بورخيس تؤمن أنها إلى زوال، وأن الكتابة لن تكون سوى معبر إلى شيء آخر، فما الشعر إلا انعكاس:
عرفت المصقول، الرملي، المتباين، الخشن
مذاق الشهد والتفاحة
الماء في حنجرة الظمأ
ثقل معدن في راحة اليد
الصوت البشري، وقع خطى فوق العشب
رائحة المطر في الجليل
صرخة الطير العالية
كما عرفت المرارة
عهدت بهذه الكتابة إلى رجل؛ أي رجل؛
لن تكون أبداً ما أريد قوله
لن تكون إلا انعكاساً له.
من أزليتي تهبط هذه العلامات
وليكتب آخر- لا مدونها الحالي- القصيدة

بعد الغياب ثمة الأثر، ذلك العالم الذي يبقى بكافة متعلقاته، ولكن ليس ثمة أثر للنفس التي امتلكتها، لا حاجة بنا للتعلق بما لا يمكن أن يحتفي برحلتنا الأخرى إلى الشيء الآخر، أو الذي لن نحمله معنا، لا حدود للاكتمال، فالنسيان ممر لكل ما نلتمسه، لا شيء يمكن أن يعدّ مجالاً أزلياً سوى الكلمة، بينما الأشياء فهي كما الإنسان لن تبقى إلا بحدود عالمها الدنيوي، لقد احتجنا لها يوماً ما، ربما تدوم بعض الشيء، ولكنها لن تعرف أبداً أننا رحلنا، وهناك تنشغل الذات في رثائها الشّفيف، بروح الشّعر، وأسئلة المعنى، فليس للأشياء معنى بذاتها إنما بتعالقها مع هذا العالم، مع الزمن، والمكان، فكم عبرنا شوارع، لا نعني لها شيئاً سوى أننا عرفنا فيها الحب أو الفرح أو الانتظار… حيث الغيوم التي ظللت جزءاً من أرواحنا، ومع ذلك، فإنها لن تدركنا، سنرحل، وتبقى هي، ويأتي آخرون ليمارسوا الحياة:

ما أكثر الأشياء
مبارد، أعتاب، أطالس، أقداح، مسامير
تقوم على خدمتنا كرقيق متضمن
عمياء متسللة على نحو غريب
ستدوم أكثر من نسياننا
لن تعلم أبداً أننا رحلنا

الأسطر الشّعرية السابقة، تشي برؤية بورخيس، للعمى المعنوي الذي نمارسه تجاه الأشياء المحيطة بنا، ونحن لا ندركها إلا بوصفها أداة، رقيقاً يخدمنا، ليس لها أي تقدير سوى كونها حاجة، لا شك بأن هذا يحمل بين طياته تصورين الأول الضلالة الإنسانية التي لا تدرك الأشياء إلا بنسقها الوظيفي، فالعالم لا يعني لي شيئا إلا لكونه موجوداً في ذاتي، في الوعي، وحين يغيب الوعي لن يكون ثمة عالم، غير أن هذا ينسحب على الأشياء البسيطة الحقيرة، ككتاب حملته يوماً، أو قيم، مارست عماها، لا مرئية هي، ولكن المفارقة أنها أكثر ديمومة، وبقاء منا.
يباهي بورخيس الجميع بما قرأ، بما اختبر من كينونة الكلمات، ودهاليزها، بروح الكتب، لا شيء آخر، يقصي ما كتب بعيداً، ويحتفي بما استنزفه من كتب، وقراءات، الحروف التي شكلت عالمه على نحو غريب وغامض، لقد جعلت الكتب بورخيس في عالم لا متناه، ليس له بداية ولا نهاية، ليس ثمة حدود إلا عشق اللغة التي تحولت إلى كائن مترع بأرواح كل من فرجيل، وشكسبير، والخيام، وأسلاف بورخيس من الشعراء والكتاب حيث يقول:
للآخرين أن يباهوا بصفحات حرورها
أما أنا فبالتي قرأتها
لكن أكن عالم لغة
لم أبحث في التصريفات أو الصيغ
أو تحولات الحروف المضنية:
كيف يشدد التاء
أو يتساوى الخاء والكاف
على أني طيلة عمري
مارست عشق اللغة
في قصيدة «مديح الظل» يكتنه بورخيس روحه التي إلى زوال، شيخوخته، المدينة التي عرفها «بوينس أيرس» وعلى ما يبدو فهنالك موقف من الزوال، أو تلك الرحلة التي على وشك الانتهاء، ولاسيما أن الشيخوخة تشهد وداع الروح الحيوانية التي تسكن الإنسان، ثمة مفارقة للغرائز، والطمع، والغرور والصلف، فالشيخوخة أقرب للإنسان، للنقاء، وهنا تكمن القيمة بأن الإنسان لن يكون نقياً إلا في مرحلتين من حياته: الأولى عندما كان طفلاً، والثانية عندما يقترب من الموت، حينها الأشياء تتضح بصورتها المطلقة، وشفافيتها، في هاتين المرحلتين من الحياة نمارس الاتصال بالوجود، كما الاستعداد للانفصال عن الوجود، غير أن الشيخوخة تتميز بحكمتها، بتلك الإدراكات ليس هنالك من أمر آخر يستحق، وبأن السّعادة باتت في هذه المرحلة من العمر قائمة، حيث تتخفف النفس من الاندفاع والتعجل. في مفردات بورخيس مجالات كافية لاختزال المعنى، وبروح الكتابة التي تتكئ على الحدس، على النظير المتأتي من العمق، تجاوز مظاهر الأشياء وألوانها البراقة إلى ما هو أعمق، إلى السّكون والتأمل المطلق:
الشيخوخة كما يسميها الآخرون
قد تكون زمن سعادتنا
فالحيوان قد مات أو شبه مات
ويبقى الإنسان، والنفس.
أحيا بين أشكال مضيئة ومبهمة
هي ليست بعد الظلمة
لا بدّ من التأمل لسطر شعري يبدو أكثر قدرة على اختزال معنى الحياة، وبوجه خاص تكوينها الهش والزائل…. إذ يقول بورخيس « كانت الأشياء في حياتي مفرطة دائماً».
إن التأمل وإدراك المعرفة، أو كنه العالم هي ما يشغل بورخس؛ ولهذا يأتي على ذكر ذلك الفيلسوف اليوناني «ديموكريتوس أبدرا» الذي فقأ عينيه كي يفكر، ويتأمل حيث لا يريد للرؤية أن تشغله.
في القصائد الأخيرة، من الديوان مقاطع شعرية تلخص عوالم بورخيس، ولعلها تنضح بأثر من الوجودية المتوازنة عن السّعادة التي لم يعرفها، عن الجدوى من الحياة، وشيء من هذا، هي تلك الظلال، أو أصداء الظلال كما يفضل أن يسميها بورخيس

 

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى