أسطورة قديمة اسمها «الضرورة الشعرية»

توفيق قريرة

من الحيل التي كانت تنطلي عليّ منذ كنت تلميذا في الثانوي وأعتقد أنّها ما تزال تنطلي على غيري حيلة اسمها «الضروة الشعريّة». كان أساتذتنا يردّون بعض الخروج عن القواعد النحوية في شعر شاعر بأنّه ضرورة شعرية.
يُقال لنا عندما نجد شاعرا ينوّن مثلا ما لا يُنوّن إنّه كان مضطرّا غيرَ بَاغٍ وأنّه لتغليب قاعدة عَروضيّة، عادة ما تتعلق بانتظام الوزن في التفعلية، اضطرّ المسكين لكسر قاعدة نحويّة. إن كان الشاعر لا يستطيع كسر قاعدة العروض، إذْ هي قضاء الشعر وقدره، فليس أمامه إلاّ أن يكسر قاعدة النحو. ما يزال الناس إلى اليوم يعيدون الحجة نفسها والطلبة يخزنون الفكرة على أنّها حقيقة وهي أسطورة عمّرت في العقول.
حين نعود إلى البدايات سنكتشف الحقيقة حتما، لكنّ المشكلة في بعض عقولنا أنّها تكره الرجوع إلى البدايات حتى إن كانت الطرق إليها واضحة. البداية في «كتاب» سيبويه، في باب من أوئل أبوابه عنوانه: «هذا ما يحتمل الشعر» (الكتاب 1/26) يبسط سيبويه المسألة ويعتبرها «احتمالا» و»جوازا» حين يقول: «يجوز في الشعر ما لا يجوز في الكلام من صرف ما لا ينصرف.. وحذف ما لا يحذف»، ويورد نماذج من أشعار العرب كالأعشى والعجاج والفرزدق، ويختم الباب بكلام حوى العبارة التي ستوسم بها الظاهرة حين قال: «وليس شيء يُضطرّون إليه إلاّ وهم يحاولون به وجْها» (الكتاب 1/32).
من كلام سيبويه التأسيسي في «الضرورة الشعرية» نفهم أنّ الشّعر يحتمل أن يأتي فيه الشاعر بما يأتي من خرق لبعض القواعد النحوية التي لا تتعارض وسلامة الكلام أو نحويّته فلا تؤدّي إلى دائرة اللحن والزلل؛ وأنّ الكلام العاديّ غير المنظوم لا يحتمل ذلك وسكت سيبويه على العلة التي تجعل الشعر يحتمل العدُول، وهو سكوت جعل الألسنة تنطلق لتبني «الضرورة» على مسائل ليست منها.
أصل العلّة أنّ صاحب الكتاب اعتمد، وهو يقنّن الكلام ويُرسي نظام قواعده، كلام العرب بلهجاته المختلفة؛ واقتضى التقعيد من النحويّ أنْ يميّز بين ما سَمّاه سيبويه «حدّ الكلام» و»سَعة الكلام» أو «وجه الكلام». أمّا حدّ الكلام فهو ما يختاره من كلام العرب ليعتبره النموذج والمنوال (من دون الخوض هنا في مقاييس الاختيار) ومنه يبني القاعدة أو الأصل؛ وأمّا «سَعة الكلام» أو «حدّه» فهو شكل من الأشكال المستعملة من كلام العرب لكنها، ولسبب إجرائيّ، لا تُعتمد أصلا أو حدّا أو طرازا.
حين ينظر سيبويه أو غيره من مقعّدي اللّغة إلى الشعر الذي قيل قبل القاعدة النحويّة سيجد منه قسما يتماشى مع حدّ الكلام وآخر يخالفه؛ وليس أمام النحويّ المقعّد في هذه الحالة إلاّ أن يقبل الشعر على أنّه شكل جائز من الكلام وصيغة محتملة من القول. وحين يقعّد النحويّ الكلام فإنّه يطلب له نظاما واحدا يضبطه ويسعى من خلال القاعدة إلى أنْ يجعل الإنجاز موحّدا بمعيار القاعدة، وذاك في رأي النّحويّ يمنعه من الزّلل. إنّ الكلام ينبغي أن ينضبط لقواعد النّحو الصريحة، هذا هو التصوّر المعياري لعلم النحو في عصر ما قبل اللسانيّات في الشرق أو في الغرب، لكنّ هذا لا ينطبق على الشعر لأنّه سابق للقاعدة، ولا يمكن أن ينضبط بما هو ضرب من الكلام مخصوص لتلك القاعدة التي ينضبط لها الكلام العادي. عندئذ سنجد أنفسنا إزاء نَحْوَيْن: نحو للكلام العادي دائرته ضيّقة، ونحو للشعر يمكن أن نجد فيه بعض الخروج عن القواعد الموضوعة للنحو العاديّ، ولا يضرّ الخروج عليها وهذا يمكن أن نسميّه نحو الضرورة الشعرية.
لنفترض مثلا أنّ شاعرا جاهليّا قال شعرا فيه اسم منوّن تمنع قاعدة الكلام العادي عنه التنوين : هذا لن يعدّ خطأ لأنّ القاعدة النحويّة لا تجبّ ما قبلها، إنّه سيعدّ إمكانا واحتمالا أو لنقل لغة من لغات العرب. الأفضل عند النحويّ ألاّ يُعيد المتكلّمون هذا الإجراء في كلامهم اليومي لكنّ هذا لا يمكن أن ينطبق على شاعر لاحق لعصر القاعدة النحوية فهو سيعيد تنوين ما لا ينوّن، لأنّ ذلك ورد على لسان شاعر سابق: ليس على النحويّ في هذه الحالة إلاّ أنْ يعدّ ذلك احتمالا ممكنا يسمح به في الشعر ولا يسمح به في غيره.
يقول العجّاج في بعض أشعاره (قَوَاطِنًا مكّةَ منْ وُرْقِ الحِمَى) فينوّن (قواطن) الممنوعة من التنوين (لأنّها على صيغة منتهى الجموع ) هذا يعدّ عند سيبويه ممكنا في الشعر غير ممكن في الكلام، لا لأنّ شاعرا كبيرا كالعجّاج اضطرّ إلى ذلك، بل لأنّ ذلك ممكن له. أن تقول هل اضطرّ أم لا؟ هو سؤال سببيّ؛ أمّا أن تقول هل هو جائز أم غير جائز؟ فذلك سؤال تقعيديّ. البحث في كونه اضطرارا أم لا يطرح في مستوى آخر وطرحه سيبويه في نهاية الكلام حين قال في الشاهد أعلاه: «وليس شيء يضطرّون إليه إلاّ وهم يحاولون به وجها». هو ضرورة نعم ولكن ليس بالمعنى الذي بيّنّاه أعلاه، بل بمعنى آخر مخالف تماما لما فهمه الناس خطأ على مرّ العصور. ذلك أنّ النحويّ وهو يقع في دائرة الاحتمال والجواز يحاول أن يُجري الكلام على وجه من وجوه كلام العرب، لا على حدّ كلامهم؛ وبناء عليه لم يكن الشعراء وهم يجاوزون ما يعدّ قاعدة واقعين خارج دائرة كلام العرب، بل هم يقعون في وجه ما من كلام العرب لا يتطابق مع وجه آخر من كلام العرب استمدّ منه النحوي القاعدة وسمّاه «حدّ الكلام». الاضطرار لهجيّ عامّ أو لهجيّ ضيّق: أن يقلّد لغة قبيلة أو يقلّد لغة الفرد الشاعر هذا يضطره إلى أن يخرج عن أصل الكلام الذي منه القاعدة.
لقد كانت الضرورة الشعرية منذ «الكتاب» مشغلا يخصّ النّحاة؛ وحتّى الشعراء الذين ألّفوا في الغرض لم ينكروا أنّ الضرورة في أصلها نحويّة أو لغويّة فالقزّاز القيروانيّ الذي وصلنا منه كتاب «ما يجوز للشاعر في الضرورة» أعاد ما ذكره سيبويه من أنّ ما يعدّه بعض الناس ضرورة لا يمكن أن يكون كذلك فهو قد يكون «جائزا لعلل تغيّبت عنه لم يبلغ النهاية من علمها» (ما يجوز:100).
لا يمكن أن يكون شاعر قد حكّك الشعر وامتلك ناصيته أن يربط أوزانه بكسر قيد نحويّ مثل صرف ما لا ينصرف أو تنوين المنادى المفرد وأمامه لو شاء إمكانات كثيرة في إعادة تشكيل الوزن، من دون أن يمسّ من روح القاعدة النّحوية. على من يصدّق مثل هذا التصوّر من الضرورة أنْ يغمض عينه عن اتساعات العرب في كلامها اتساعات كانت الأشعار أهمّ معلم يمثّلها لذلك تكمن خلف الضرورة الشعرية صور أخرى لحياة العربية لم تغيّبها القاعدة وإنّما الفكر المتشبث بالقاعدة والرافض لغيرها من الاتساعات.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى