«كوميديا السلوك» والسخرية من البورجوازية الفرنسية

سليم البيك

ليس من السهل أن ينتقل مخرج إلى الكوميديا بعد عدة أفلام جادة ومأساوية. تكون للمخرج المؤلف لأفلامه عادةً هوية تشكلها مجمل هذه الأفلام، وكونه كاتبها، كما هو مؤلفها، فلا بد أن تكون متقاربة من ناحية المضمون، أو الهوية، فحين نقول أسماء مثل ألفريد هيتشكوك تخطر لنا أفلام جرائم وتحقيقات، وحين نقول كين لوتش تخطر لنا أفلامٌ بقضايا اجتماعية وسياسية، وحين نقول جاك تاتي، تخطر لنا أفلام كوميدية هزلية شبيهة بفيلم/موضوع هذه الأسطر، وهكذا يحدث إجمالاً أن تقترن هوية ما بمخرج رسمها مجمل أفلامه، والتنويع يكون غالباً ضمن إطار هذه الهوية، مع فيلم هنا أو هناك خارج هذا الإطار. وبالحديث عن تماثل أفلام مخرج تبعاً لهوية جامعة، لا بد من ذكر ستانلي كوبريك كاستثناء، حيث أخرج أفلام رعب وخيال علمي وبيوغرافيا وسيكولوجيا وحرب وتاريخ وغيرها، وأبدع فيها كلها.
مناسبة الحديث هو الفيلم الجديد للمخرج الفرنسي برونو دومون، «Ma Loute» الذي نافس على السعفة الذهبية في «مهرجان كان» قبل أيام. فقد استطاع دومون تشكيل هوية لسيرته السينمائية، من خلال أفلام جادة ومأساوية وبعيدة تماماً عن الكوميديا، من «حياة يسوع» و«الإنسانية» في أواخر القرن الماضي إلى «كامي كلوديل 1915» قبل ثلاثة أعوام حيث أدت بطولة فيلم السيرة المأساوي جولييت بينوش، التي أدت دوراً في «ما لوت» هو النقيض تماماً منه.
مروراً بأفلامٍ أخرى لم يمهد أي منها لفيلم كوميدي كالأخير، حيث يذهب المخرج بالكوميديا إلى أطرافها، إلى الهزل والتصوير الكاريكاتيري المبالغ فيه لشخصياته، والمبالغة هنا كانت مقصودة لغاية السخرية من سلوك وأسلوب حياة البورجوازية في تلك الحقبة، وذلك بإظهارٍ كاريكاتيري لما هو كاريكاتيري أصلاً، أي الهيبوكريسي، أو الرياء الاجتماعي، البادي على سلوك الشخصيات وأحاديثها.
ولأن الفيلم يتناول شخصيات من البورجوازية تقوم برحلة من مدينة ليل إلى مكان ناء في الساحل الشمالي لفرنسا، عام 1910، كان لا بد أن يكون لباسها كاريكاتيرياً كذلك، كما سلوكها وأحاديثها، وما يمكن أن يُبرز تضخمها وبهرجتها أكثر هو المكان البسيط الذي يُصور فيه الفيلم، حيث السماء تملأ نصف المكان، ونصفه الآخر إما ساحل رملي أو صخري أو تلال خضراء.
لا تُوصف الكوميديا هنا بالذكية، بل بالغريزية، فهي تضخيم لسلوك ما ومبالغة في أدائه، وهي كذلك الغباء في بعض الحوارات، وليس ذلك عيباً في الفيلم بل كان متقصداً، كان كالتهريج أو الأداء المسرحي، حيث يبالغ الممثلون بأدائهم كي يصل إلى الجمهور على كراسيه، فلا كاميرا تصورهم بلقطات قريبة، وذلك شمل العائلة البورجوازية والمحقق في الجريمة ولم تمتد إلى العائلة الفقيرة التي كان سلوكها، من هذه الناحية فقط، أقرب للعادي.
تزور عائلة بورجوازية الساحل لتمضي عطلتها، ولا يكف أفرادها عن الانبهار بجمال الطبيعة هناك. تكون المنطقة قد شهدت عدة حالات اختفاء، والمحقق، وهو شخصية في غاية الغباء، ومساعده يجولان في المكان للتحقيق في شأن الاختفاءات، وفي وسط ذلك تنشأ علاقة حب بين «ما لوت»، وهو ابن عائلة فقيرة من الصيادين تعيش هناك، وبين ابن هذه العائلة المتنكر بزي فتاة تتنكر أحياناً بزي صبي، فيظنها فتاة تتنكر بزي صبي. باكراً نعرف أن الاختفاءات سببها العائلة الفقيرة التي تخطف بعض الزوار وتذبحهم وتأكل لحمهم نيئاً، نُشاهد أطفالها الثلاثة يمضغون اللحم ويمصون العظام والدماء تغطي ذقونهم.
يكتب برونو دومون أفلامه التي يخرجها، منها هذا الأخير، ما يجعل أفلامَه مشاريعَه الخاصة، وكانت كتابة فيلم «كوميديا السلوك» هذا مغامرة غير مضمونة النتائج، خاصة أنها ليست كوميديا ضمن قالب آخر، بل أتت بمواضيع أخرى، كعملية التحقيق وقصة الحب، ضمن قالب أساسي هو الكوميديا الهزلية. لكن استعانة المخرج بأسماء مهمة لأداء شخصياته ساعده على إيصال الحكاية بالأسلوب الذي يريده إلى السينما، وهذه الأسماء كانت جولييت بينوش وفابريس لوكيني وفاليريا بروني تديسكي.
هذا الدمج بين الفيلم كعمل فني، وهو كذلك فعلاً، وبين التهريج المتغابي والمبالغة في الأداء، كالتعثر والوقوع بشكل متكرر، استطاع فعلاً أن يكون مضحكاً، أو ليكون الكلام أكثر دقة نقول إن ما كانه الفيلم ليس دمجاً بقدر ما كان جلباً للتهريج إلى سينما فنية، أو جلباً للغريزية إلى الجمالية.

 

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى