عادل الميري يؤرّخ لشارع الهرم … خارج الصور النمطية

سيد محمود

في كتابه «شارع الهرم… وفرق موسيقى الشباب في السبعينات» الصادر عن «دار آفاق» في القاهرة، يؤرخ الروائي المصري عادل الميري لصعود شارع الهرم في مصر وهبوطه.
عرف الشارع شهرة كبيرة منذ نهاية ستينات القرن العشرين. ولنحو ربع قرن كان فيها علامة مميزة لشيوع نمط من السياحة الخليجية، أسهم بحسب مختصين في علم الاجتماع في إحداث انقلاب في القيم المصرية، وأحدث بها تحولاً لافتاً نحو الاستهلاك، لا سيما مع ارتباطه بسياسة الانفتاح الاقتصادي التي انتهجها الرئيس المصري السابق أنور السادات اعتباراً من العام ١٩٧٤. ثم ساعدت السينما المصرية كثيراً على تأكيد هذه الصورة.
وعادل الميري روائي ذاع صيته في السنوات الخمس الأخيرة، بعد نجاح العديد من كتبه مثل «تسكع»، «كل أحذيتي ضيقة»، «لم أعد آكل المارون غلاسيه»، «فخ البراءة»… وعمل إلى جانب دراسته الطب في مجالات الإرشاد السياحي والترجمة وعزف الموسيقى وهي مهنة توقف عنها تماماً بعد العمل في السياحة.
وخلافاً لدراسات سابقة ركزت على الجانب الاجتماعي، يعطي الميري مساحة أوسع لخبراته الذاتية انطلاقاً من تجربته كعازف لآلة الغيتار لعشر سنوات في مسارح ليلية في شارع الهرم، شهدت بدايات لمغنين وراقصات ذاع صيتهم بعد ذلك، لعل أبرزهم المغني أحمد عدوية.
ويمكن النظر إلى الكتاب ضمن ما بات يعرف في الدراسات التاريخية المعاصرة بـ «التاريخ من أسفل» حيث تستند الرواية إلى الصوت الهامشي المقموع الذي لم يسع لتدوين روايته عن أحداث مركزية فارقة ومنها أحداث تمرد جنود الأمن المركزي في العام ١٩٨٦. كذلك يتابع صعود وهبوط مهن تعاني اليوم من التراجع والانحسار، حيث أدى انتشار الـ «دي جي» لركود سوق العازفين الموسيقيين. كما غابت تماماً مهنة المونولوغيست الذي كان يقدم النكات والفواصل الكوميدية بين الفقرات الاستعراضية داخل هذا النوع من الملاهي الليلية.
ولا يعتمد الميري إلا على ذاكرته وخبراته الذاتية، ولا يلجأ في كتابه إلى مواد توثيقية مدونة سابقاً، مكتفياً بحسه الروائي وطاقته السردية، ويعمد لتقديم مرويات عن شارع الهرم وما عايشه بنفسه من وقائع داخل «علب الليل» التي نادراً ما تبوح بأسرارها. وظلت هذه الأمكنة في غالبية الكتابات الصحافية التي قاربتها، ضحية كتابة نمطية تعلي من شأن الأحكام الأخلاقية أكثر من التفاتها إلى طاقة التناقضات داخل المكان، من دون أن تتنبّه كذلك للعبة المصائر التي شغلت ذهن الميري بتكوينه الروائي وهو يتابع البدايات الأولى لأسماء بات أصحابها من نجوم عالم الغناء مثل عمرو دياب ومدحت صالح ومحمد منير وعلي الحجار ومحمد الحلو والراحل عمر فتحي، أو يتابع اضطرار مطربين كبار مثل محمد عبد المطلب ومحمد قنديل للغناء في تلك الأماكن لجمهور كان يتابع نهاية تاريخهما الغنائي. كما لا يحرم الميري القارئ من متعة التلصص على بدايات إمبراطور الإعلان المصري طارق نور الذي بدأ حياته عازفاً في فرقة أسسها بعنوان «ذا ماس» في منتصف سبعينات القرن العشرين.
ويرصد المؤلف الظروف التي تمكنت فيها أغان لكبار مطربي الخليج مثل محمد عبده وطلال مداح من احتلال مساحة في برامج هذه الصالات كإشارة أولى على تغير ذائقة التلقي، عقب موجات الهجرة التي دفعت كثيراً من المصريين للعمل في الخليج أو تعبيراً عن حجم السياحة الخليجية التي زادت في تلك السنوات على نحو جعلها سمة من سمات المرحلة.
وأكثر ما يحرص المؤلف على تأكيده أن الانفتاح الاقتصادي صاحَبه كذلك انفتاح فني على الغرب لم يساعد فقط على ازدهار فرق الموسيقى الغربية، بل ساعد على زيارة العديد من المطربين العالميين بفرقهم للقاهرة التي زارها خوليو إغليسياس وشارل أزنافور وداليدا ودميس روسوس.
وفي الكتاب انشغال مركزي برصد أنماط التحول الاجتماعي وتغييرات المدينة، إذ يتابع المؤلف انتقال صناعة الموسيقى الليلية من الملاهي إلى الفنادق (فئة الخمس نجوم) اعتباراً من ثمانينات القرن العشرين، وأثر هذا التحول على شكل الشارع. ويقدم خريطة لشبكة انتشار الملاهي وتحولها إلى مناطق وأحياء أخرى مثل المهندسين والزمالك. وينشغل السارد بالمقارنة بين زمن الكتابة والزمن الذي تروي عنه سواء ما تعلق بخراب بعض الأماكن وتدهور بعضها الآخر مثل كازينوات الأربرزونا ورمسيس والأندلس والليل أم تغييرات أخرى أصابت شوارع القاهرة التي عرفت السهر بسبب ارتباط سكانها بالبرامج التلفزيونية التي لا ينقطع بثها على مدار الساعة، وهو أمر لم يكن شائعاً في السبعينات.
ويربط الميري ازدهار السياحة في شارع الهرم بالانفتاح الاقتصادي، ومن بعده سياسات الصلح مع إسرائيل التي شجعت السياحة الأجنبية وأبقت الشارع كفضاء فولكلوري وساحة للرقص الشرقي الذي كان في قمة ازدهاره مع أسماء مثل سهير زكي ونجوى فؤاد وهياتم وحتى ظهور فيفي عبده ولوسي.
ولا يفوت المؤلف رصد اللغة الخاصة التي ابتدعها الموسيقيون في تلك المحال بما فيها من شيفرات دلالية وهي لغة كان فهمها مقتصراً عليهم. ويعطي الميري تفاصيل دقيقة عن تكوين الفرق الموسيقية ونوعية الآلات وأسماء العازفين، ويطلق أحكاماً في شأن قدراتهم الموسيقية. كما يلاحظ اختفاء غالبية آلات النفخ النحاسية والخشبية وآلة البيانو بعد ظهور مكبرات الصوت وظهور آلة السينشايزر التي تتمكن من إصدار أصوات الآلات كافة.
كذلك يرصد البدايات الأولى لعمل فرق الموسيقى الغربية في القاهرة حيث كانت بعض المحال تضطر لإيجاد كيانات موازية، أي صالة أخرى لها، لتلبية رغبات الجمهور المنحاز للنمط الموسيقي الوافد الذي اعتمد بالأساس على موسيقيين شكلوا الركيزة الأساسية لتغيير شكل الموسيقى المصرية منذ نهاية السبعينات، مثل عمر خورشيد، هاني شنودة وعمار الشريعي بفرقهم الغنائية. وبعضهم أيضاً كان يعمل في الأوركسترا السيمفونية التابعة لوزارة الثقافة لتغطية حاجاته المالية، وبعضهم تحول في اتجاه إيجاد موسيقى بديلة مثل يحيي خليل وفتحي سلامة وعزيز الناصر، وكانوا جميعاً ركائز أساسية في الفرقة التي عملت مع محمد منير في بداياته. لكن المؤلف يفسر كذلك تراجع حضور الفرق الغربية وأبرزها «ليه بيتي شاه» و»البلاك كوتس» والذي جاء نتيجة تغيير الذائقة وتحول السلم الاجتماعي مع ظهور طبقة الأغنياء الجدد وتصدرها للمشهد، إضافة إلى تحولات أخرى جاءت نتيجة تكنولوجيا صناعة الآلات الموسيقية الغربية مع ظهور جهاز «الريتم بوكس» ثم الـ «سيكوينسر» أي المتتابع الذي أدى في نهاية المطاف للاستغناء التام عن كل الآلات الموسيقية.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى