دلال البزري تستعيد سنوات السعادة الثورية

أحمد زين الدين

تستعيد الكاتبة دلال البزري في كتابها «سنوات السعادة الثورية» (دار التنوير) شذرات قصصية عن أحوال الحركة السياسية والطالبية في لبنان التي نشطت في ستينات القرن العشرين، وما واكبها من تظاهرات وإضرابات قامت بها الأحزاب اللبنانية اليسارية. وكانت الكاتبة عهدذاك إحدى المشاركات المندفعات والمخلصات لخطّها ومنحاها. وقد أفضى انقضاء السنوات المديدة على هذه التجربة، وتواتر الخبرات، والتزوّد بالمعرفة والثقافة والعلم إلى مراجعة نقدية أتاحت للكاتبة – وهي اليوم أستاذة في علم الاجتماع – القدرة على التمييز، وعلى إعادة النظر في ما كانت تحسبه من البديهيات، ومن طبائع الأمور، فوضعته في كتابها تحت عدستها الجديدة ليكون في موضع المساءلة والمعاينة والفحص الدقيق. ومن خلال تعقيبها على الأحداث والوقائع الماضية، توصلت إلى قراءة أكثر موضوعية، وإلى فهمها بعد كل هذه الأعوام، فهماً أعمق وأدق، وإلى إيضاح ما كان كامناً بفعل حرارة اللحظة النضالية، وضعف الزاد المعرفي حينذاك، من دون أن تسترسل بالتنظير لتلك الحقبة.
وإذا كان من نقد لبعض مظاهر الحياة السياسية لا سيما في صفوف الأحزاب الشمولية، فهو مشوب بالنبرة الساخرة لمجمل هذه التجربة المخفقة. نبرة تضفي على الكتاب حلاوة وطلاوة، وفق العبارة العربية المأثورة، وسمة محببة ولاذعة في الوقت ذاته، وبخاصة عندما تستخدم أسلوب التلميح والتورية. ولا تستثني الكاتبة نفسها من هذا النقد، وهي التي انخرطت في مطلع شبابها في منظمة العمل الشيوعي بكل حيوية ونشاط. ومع ذلك لا تكتب دلال البزري سيرتها في حد ذاتها، بل تكتب سيرة بلد وتجربة جيل، وذاكرة الحركة الطالبية اللبنانية عشية الحرب الأهلية، ونهوض الأحزاب اللبنانية اليسارية بالتزامن مع انتشار الفلسطينين على الأرض اللبنانية، عقب أحداث أيلول (سبتمبر) في الأردن، وما نجم عن هذا الانتشار من انقسام وفرقة بين اللبنانيين.
أحزاب اختلطت فيها مطالب الإصلاح التربوي بإصلاح الحكم، والقضية الوطنية بالقضية القومية، وعلى رأسها قضية فلسطين. كذلك اقترنت مواجهة السلطة وأدواتها القمعية بالنضال العمالي والنقابي. والكاتبة إن انخرطت في بعض أحداث هذه القصص والمرويات، إلا أنها تنحو عموماً إلى ان تكون الشاهدة والراوية بمقدار ما هي البطلة. ولكن أيضاً الباحثة والمحللة الاجتماعية التي تحلل أعمالها وحماستها وأفكارها، كما تحلل اعمال الآخرين وأفكارهم وعواطفهم، و»كيفية تطبيق نظرياتهم الثورية».

المثال والواقع
تحاول البزري في بعض المواضع أن تقرأ الماضي قراءة تتجاوز فيه الحدث أو الواقعة إلى اكتشاف الأسباب والدوافع، فتُظهر كيفية اتخاذ الأوهام السياسية عند ذاك الجيل الشاب شكل الإيمان الراسخ، وصعوبة انتزاع الحرية، والفشل في تغيير وجه العالم إذا اقتصر على حفظ المقولات والشعارات السياسية فحسب. وإذا كان التفاني وتكريس الوقت لتحقيق الأهداف الثورية المنشودة، ومتابعة طريق النضال من الأمور المحمودة، فإن غياب الوسائل الضرورية والفاعلة لتحقيقها تجعل من هذه الأهداف سراباً في صحراء. وقصص الشباب الحزبي ومغامراتهم العاطفية والسياسية وقلة خبرتهم وضعف دربتهم التي نلمسها في الكتاب، هي أبعد من ان تكون ثورة أو وعياً طبقياً، وأقرب إلى مفهوم التمرد عند المراهقين والذي يراوح بين المثال والواقع. (سامية التي تحاول ان تجسد في حياتها شخصية ناتاشا في رواية الأم لمكسيم غوركي).
أسباب عديدة جعلت الشباب يقبلون على الانخراط في صفوف المنظمة، منها الثورة على المعوقات الفكرية التي تعترضهم في بيئاتهم، لا سيما تلك البيئات الضيقة والمحافظة التي يطلق عليها الشيوعيون اسم البيئات الرجعية. والمطالبة بحرية الاختلاط بين الجنسين، وهو أمر غير مباح به في تلك المجتمعات الأهلية، لكنه تأثر بحركة الطلاب الفرنسيين آنذاك التي كانت تربط التحرر الجنسي بالتحرر من كل أشكال السلطات القمعية، والتمرد على الأهل كعلامة على البلوغ واستقلال الشخصية. وتقرأ البزري هنا قصة عارف وبنت الجيران قراءة متمعنة، فتتجاوز الحدث لتصل إلى أبعاد الحرية الجنسية والمساواة بين الجنسين، ودلالات ارتباطهما بفكرة النضال السياسي.
تتشابه منظمة العمل الشيوعي وسواها من الأحزاب اليسارية في الرؤية، وفي تنظيم الولاءات، وفي الإشادة بالمناقبية الحزبية. والاندفاع إلى تلبية كل ما يُفرض على الحزبي من الاضطلاع بمهمات مهما كانت ضئيلة، لكونها تظلّ في نظره من المهمات الثقال، ومن الواجبات المفروضة عليه حتى يستحق كلمة مناضل. وهو يخلص للفكرة الثورية بحماسة شديدة، ويعيش على أمل تحقيقها ولو بعد حين، ويحسب الإذعان والتضحية قمة الإخلاص والثورية.

التثقيف الحزبي
وإذ يُعد التثقيف الحزبي، وفي طليعته قراءة «البيان الشيوعي» من المهمات الأساسية لدى الرفاق المحازبين، فإن سهى الشخصية الرئيسة يحل عليها عندما تفتح الصفحة الأولى من البيان ضوء، ينير فجأة غرفتها بنار الحقيقة، مع انها لم تفهم منه الشيء الكثير، لكنها مصرة على التمسّك بكل ما في متنه من ألغاز. وفي هذا الموقف دلالة على الانبهار بهذا الغموض المثير الذي يشكل حافزاً من حوافز المغامرة الذهنية عند المراهقين. ومن المفارقات المعبرة عن الهوة بين أحلام الطلاب وواقع العمال المزري، وبين النظرية والتطبيق، أن هؤلاء الطلاب المحازبين كانوا يجتمعون بالعمال، وهم مدججون بعبارات مثل فائض القيمة والإنسان الجديد وسلطة السوفياتات، من خلال كتابات ماركس وأنجلس ولينين وماوتسي تونغ، بيد ان المستمعين من العمال لايفقهون شيئاً مما يُقال لهم فيلوذون بالصمت. ويثير هذا الحرص على ضرورة استظهار مثل هذه العبارات الببغائية الضحك عند القارىء. ولم يكن هذا دأب الأحزاب اليسارية فقط، بل انتشرت هذه العدوى حتى في الأحزاب القومية وقتذاك التي كانت تسهر على تزويد أتباعها بهذه المقولات، وحضّهم على تعظيمها، والتعامل معها بمثابة أقانيم مقدسة.
تنتقد الكاتبة مسلك المسؤولين الحزبيين والطقوس التفخيمية التي يحيطون انفسهم بها، فلا يختلفون عن أخصامهم من القادة التقليديين باستعلائهم ونرجسيتهم، والتأكيد على سطوتهم على المحازبين ممّن هم أدنى منهم مرتبة او درجة. ولا يمتلك هؤلاء الشباب إلا ان يردوا عليهم بالحطّ من شأنهم، عبر تلقيبهم بألقاب ونعوت مثيرة للسخرية.
يتخذ هؤلاء الشباب المسيّسون آراء قاطعة ومواقف صارمة من فكر الآخرين المخالفين لهم، لا سيما مفهوم الصراع الطبقي الذي يتخذ أحياناً شكل تصرفات طريفة، كما هي حال سهى التي تقاصص البورجوازيين، فتسوّغ لنفسها الحق بسرقة الكتب الفرنسية من المكتبات الكبرى، حين يرفع اصحابها الأسعار «لأن المعرفة يجب ألا تكون حكراً على أحد». كذلك عدم التمييز بين الولاء للدولة والولاء للنظام، لذا نجد من يهزأ بصورة الأرزة على العلم اللبناني ويشبهها «بالقرنبيطة». ولا يبالي هؤلاء المحازبون بين خصوصية مجتمع وآخر، ولا يلحظون، او يراعون الظروف والفروق والعوائق المادية والمعنوية. ونقرأ في قصة غسان الشيعي الجنوبي محاولة الخلط بين انطونيو غرامشي وأبي ذر الغفاري باعتباره اول اشتراكي في تاريخنا. كما الجمع بين أحوال المنظمة وأحوال طائفته. وتذكر الكاتبة بأسى كيف ان هذه الطائفة انقلبت على نفسها وعلى تاريخها، وتحوّلت لهجتها الشغوفة بالعدالة وتمردها على الاستكبار، إلى حالة من الاستقواء والتبجّح.
وفي ضوء الأخطار الداهمة اليوم، تتشبث الكاتبة بهذه الذاكرة لا لتحطيم الماضي، على ما فيه من سيئات، بل لأجل ألا تتحوّل الحياة في مقبل الزمان كما تقول، إلى عبودية فطرية. «فالذاكرة الآن فعل حرية».

 

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى