سلافوك جيجيك قارئاً عنف العالم

مازن معروف

في احد أيام الاحتلال النازي لفرنسا، قرر ضابط ألماني زيارة منزل بيكاسو في باريس. كان بيكاسو لا يزال يحتفظ ببعض من أعماله التشكيلية التي لم يخبئها في خزانة أحد البنوك كما فعل مع أعمال ماتيس وغيره. فنانون أوروبيون كثيرون كانوا قد هاجروا إلى نيويورك تاركين باريس خوفاً من الألمان. أما بيكاسو فبقي. وهو اختلف لاحقاً مع أندريه بريتون حول رمزية هذا الإجراء، ما تسبب بانقطاع العلاقة بينهما نهائياً. بيكاسو كان خبيراً في مراوغة العسكر الألمان، الذين اعتادوا القيام بمسح لممتلكاته والتلويح دوماً بمصادرتها في محاولة للتضييق عليه. الضابط الألماني أراد أن يعاين لوحات بيكاسو التي يحتفظ بها في منزله، وما إن رأى لوحة «غرنيكا» وما تمثله من خراب الحرب والرمزيات الدالة على شراسة القرن العشرين والأشلاء الموزعة في أطراف اللوحة والصرخات التراجيدية، حتى سأل بيكاسو مندهشاً «هل أنت من فعل هذا؟» فأجابه بيكاسو «لا، بل أنتَ. إن هذه اللوحة هي النتيجة الحقيقية لسياساتكم!».
كان بيكاسو يريد الإشارة إلى ما سيسميه سلافوك جيجيك «العنف الموضوعي» وهو عنف غير مرئي، مموه وأنيق، يفرض نفسه على البشر كنظام حياة أسمى ينبغي اتباعه، أو أسلوبٍ من العادات «المثالية» التي عليها أن تتفشى مجتمعياً وأن تفتك بطيئاً وفي شكل خبيث بالتنوع الثقافي وبالتالي العرقي.
في كتابه «في العنف» الصادر عن دار بيكادور بالإنكليزية، يتطرق جيجيك، الذي سمته إحدى الصحف «إلفيس النظريات الثقافية» إلى ظاهرة العنف الموضوعي. وهو العنف الذي إن اعتمد سابقاً على إيديولوجيات فاشية وأنظمة عسكرية فإنه يتكئ اليوم على نظام المال وتدويره المستمر في المجتمعات، لسلبها سعادتها ومدخّراتها القليلة لمصلحة ثراء قلة من الناس الذين يستطيعون الانعزال عند الضغوط في المحميات الطبيعية والجزر النائية بعيداً من مشكلات العالم التي تسببوا بها. مثل ثلة من المهرطقين الليبراليين ذوي الميول اليسارية كبيل غيتس وأثرياء التكنولوجيا والابتكارات الرقمية الذين على شكالته، وهؤلاء يجاهرون بقلقهم على المناخ وهباتهم الخيرية ومساعداتهم الإنسانية.
ومن جهة أخرى، يتحكمون بعالم ممنهج ليدعو الأثرياء الأقل ثراء منهم إلى توزيع ثرواتهم على الفقراء بعد مماتهم، وبالتالي تبديد قوة منافسة وتحويلها إلى حصص نقدية ضيئلة تنفق سريعاً في الاستهلاك.
هكذا يفرض على الفرد أينما وجد ما ينبغي عليه أن يشتريه ويعيشه وماذا يأكل ويشرب وماذا يشاهد في التلفزيون وكيف يدخل الحمام. العالم يتحول إلى مستوعب من البشر المتشابهين في نهاية المطاف، فلا يعود العنف الممارس عليهم ملحوظاً. مقابل ذلك فإن ارتدادات هذا العنف، القاضي بسلب بلاد مواردها الأولية والنفطية وإرثها الحضاري وآثارها، تتجسد بصيغة أفعال إرهابية نسارع إلى إدانتها وشجبها من دون السعي إلى الإحاطة بمسبباتها من كل الجوانب. بل إن أخطر ما يحدث هو أننا نعيدها إلى أسباب عقائدية صرفة، لها علاقة بإيديولوجيات أو أفكار دينية تطورت قبل مئات السنين. كما لو أننا نعاصر وحشاً ناقماً كل مشكلته أنه غير قادر على التكيف مع نظام الحياة «العصري» أو اللحاق بليبراليتنا الفذة. ثم يتسلل كل ذلك إلى السينما من خلال أفلام تصور مثلاً بطولات الجنود الأميركيين في العراق من دون أن تسمح لنا بطرح السؤال الأساسي المتعلق بهذه الحقيقة وهو: «ما الذي يفعله شاب أميركي يرتدي زي الجندية وهو مفوّض للقتل، في العراق أصلاً؟».
جيجيك هو آخر المثقفين النجوم ممن يتمتعون بسمعة عالمية في القرن الحادي والعشرين. وجوده يقول إن المثقف يستطيع أن يكون نجماً أيضاً. في الأكاديميات والمراكز الثقافية والمتاحف والجتمعات. أسلوبه الخطابي واستعداده للمحاورة والمناظرة والمشاكسة بنبرة حادة أحياناً، وميله في الوقت ذاته إلى التهكم والسخرية يجعل منه شخصية تمتع متابعيه وتشد انتباههم.
هو يحب أن يطرح النكات خلال مناظراته وأن يطلقها من دون أن يبتسم كما لو أن النكات ظواهر حياتية مريرة لا فكاهية. إنه الفيلسوف المتألق، الذي يستفز وجوده كثيرين من المثقفين والفنانين البصريين والكتّاب. هؤلاء يعتبرونه شعبوياً، سهلاً أو متسرعاً، أو غير جدي كفاية. غير أن أسلوبه المعتمد على تفكيك العالم الراهن الذي نعيشه وتحويله إلى منظومة فلسفية ونقده للطبقة العنفية غير المرئية تجعلنا في حاجة ماسة إلى قراءته.
أما صراعه الأول فهو مع الرأسمالية، الذي يعتبرها أنها فشلت لكنها لن تسقط لأنها غول معقد التركيب يستطيع تغذية نفسه بنفسه في كل الأوقات والظروف. وهو ما يجعلها غير آيلة للسقوط، أقله في الظروف التي تعمل الرأسمالية فيها. لكنه كذلك الماركسي «السيء الصيت»، الذي يقيم على مسافة بعيدة من اليساريين الليبراليين فيصفهم في كتابه على أنهم «براغماتيون، لا يتطرقون إلى الطبقة العاملة بقدر ما ينجذبون إلى المشاكل المتجسدة ظاهرياً كالمجاعة في أفريقيا واضطهاد النساء المسلمات والعنف الديني الأصولي. إنهم يعشقون الأزمات الإنسانية لأنها تُقدِّم أفضل ما فيهم».

 

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى