مهرجان الفيلم اللبناني.. سينما الأشباح

علي زراقط

في مقابلة مع مجلة «دفاتر السينما» قال الفيلسوف الفرنسي جاك ديريدا إن «السينما هي حداد رائع، وهي صناعة الحداد بصورة معظّمة». لا أجد أفضل من هذه الكلمات لكي تصف صورة السينما اللبنانية التي نراها خلال السنوات العشرين الأخيرة. لا بد أننا لم نحدّ على موتانا بالشكل الكافي، لا بد إن هناك أشباحا تسكن ذاكرة السينمائيين. منذ «أشباح بيروت» (1998) لغسان سلهب، قليلة هي الأفلام اللبنانية التي لم تتبنّ البنية الشبحية لأبطالها في تعاملهم مع المدينة والبلد، حيث الإنسان (بطل الفيلم) موجود وغير موجود في هيكل متداع يكاد يسقط، في مجتمع يتفكك، في ذاكرة تثقل عليه التنفس. نساء أو رجال يأتون إلى الأمكنة كأشباح تبحث في الذاكرة، تنبش القبور، أو تأخذ الآخرين إليها، هذه هي الشخصيات التي نراها على الشاشة. أشباح لبنان السينمائية هذه لا زالت تسكن في الأفلام الروائية الثلاثة التي عُرضت خلال مهرجان الفيلم اللبناني الذي اختتم الأسبوع الماضي.
تلعب رنا سالم دور «رنا» بطلة الفيلم، التي تمشي في طرق بيروت الداخلية، تتفادى السيارات وتنوء تحت ثقل ثيابها الرسمية. غي شرتوني يلعب دور «غي» زوج رنا، الذي يعمل في مزرعة صغيرة على مشارف المدينة، بقعة خضراء في غابة من الأسمنت. في فراغ علاقتهما التي تبتلعها المدينة، يهرب كل منهما إلى عالم موازٍ، عالم يقع على مشارف الواقع إلا أنه يسجنه خارجاً، تسجن رنا إحباطها وكبتها في أوتوبورتريهات تنفذها لنفسها، مرة قرب الحائط بعد الاستحمام وبلا تبرج، ومرة على الكنبة وفي صورة المرأة المغرية مع تبرج زائد. كأنما بصورها هذه تعبّر رنا عن ضياع صورتها، وعدم قدرتها على تحديد ماهيتها. «ما هي صورة رنا عن نفسها؟» تريد أن تسأل المخرجة، وما هي صورة غي عن نفسه؟ زوجان يتألمان كأشباحٍ لم تتصالح مع ماضيها. غي غائب في نباتاته عن المدينة وعن زوجته، وزوجته غائبة في أحلام يقظتها عن جسدها وزوجها. زوجان غائبان في أشباح الماضي. والماضي يسكن هناك في الجبال، حيث قبور الآباء والأمهات والكنائس الصغيرة النائية القريبة من الله. يترك الزوجان المدينة ويقودان إلى الجبل، بحثاً عما يجمعهما من جديد. رحلة إلى الذاكرة، ذاكرتهما عن الأرض، المكان الذي اليه ينتميان، وإلى سيرة الفقدان والحداد الذي لم ينتهِ. بنية أشباح «الطريق» مكتملة، إلا أنها لا تسعى للانتقام، هي أشباح لا تريد إلا التصالح كي تعيش بسلام.
عائد من الحرب
«من السماء» يعود شبح آخر إلى المدينة، سمير (رودريغ سليمان) يظهر في المدينة بعد عشرين سنة من الغياب. عائلته ظنته كل هذا الوقت ميتاً خلال قتاله في الحرب اللبنانية، إلا أنه يعود من الموت لكي يراجع حسابات الحاضر. «ما الذي قاتلنا لأجله؟» يظهر هذا السؤال في كل مشهد من مشاهد الفيلم. هل قاتل سمير لأجل أن يصير أخوه حارساً لمغنية تريد أن تكون سياسية بقوة المال؟ أم لأجل أن يصبح رفيقه في القتال مسؤولاً في شركة أمنية؟ أم أنه قاتل كي يترك أمه تموت بحسرتها؟ أم كي تبقى حبيبته أسيرة الماضي؟ أم كي يستمر التاريخ عصياً على الفهم فيتحوّل هلوسةً في لسان أبيه الخرف؟ يعود شبح المقاتل إلى البلد ليسأل الأسئلة العالقة منذ الأزل. لماذا قاتل اللبنانيون فماتوا؟ لا أحد من الشخصيات التي يلتقيها سمير لديه إجابة، وكما نعلم من عالم الأشباح أن الروح التي لا تحصل على إجابة حول ماضيها تستمر بالتطفل على الحاضر. سمير هو روح الحرب التي تسكن كل شخصيات الفيلم، وهو الشبح الذي يحرك يأس الجميع ويحكم مستقبلهم. «من السماء» يقترح علينا أن لعبة الذاكرة، هي دوامة من الأسئلة التي لا إجابة لها وسوف تستمر إلى ما لا نهاية، وكأنه بذلك يؤكد أننا مسكونون بالأشباح.
أما في Go Home لجيهان شعيب، فتعود ندى (غولشيفته فرهاني) إلى لبنان من فرنسا، بحثاً عن شبح جدها الذي تظنه مات خلال الحرب. في منزل مخرّب تسكن وتحاول ترميم ما تستطيع من الجدران. تحاول أن تمنع والدها من بيع المنزل/الذاكرة، وتبقى معلقةً بها بصورة مرضيّة. الفتاة العائدة عبر البحار إلى هذا المنزل الهرم في جبال لبنان، مسكونة أيضاً بشبح الجد. ليس المنزل هو المسكون، بل هي نفس ندى التي لم تتخطّ الذكريات. ندى التي لم تفهم ذكرياتها عن قسوة الحرب، والتاريخ المعقد لهذه البلاد بجبالها ومدينتها، هي صورة السينمائي الباحث عن تفاصيل الذاكرة فيرسم انعكاساتها أشباحاً تتناسل في المرايا، أشباحٌ تخيفنا لكننا نحبها إلى حدّ الاختناق.

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى