جان دوست: عشت في كوباني وأُعجبت باللغة العربية

مها حسن

حين تقرأ لجان دوست، تشعر أنك تقرأ رواية عالمية، ثم تتذكّر أن الرواية مكتوبة باللغة العربية. كأنك تقرأ أدباً مترجماً ولكنه في الوقت ذاته، مكتوب باللغة العربية.. ربما هذه إحدى أهم مواصفات الكاتب الكردي الذي يكتب باللغة العربية. لكن القارئ لا يشعر بأي تمييز بين عالمي جان، أي روايته الكردية المترجمة إلى العربية، روايته المكتوبة باللغة العربية مباشرة… العالمان يحويان الاشتغال الدقيق ذاته، كأنه يطرز رواياته، حرفاً بحرف، مشتغلاً بدقّة النحات، وهو يهجس بالشكل، بالتبويب، بالفصول… ليأخذنا في عوالم كتابية غير مألوفة، لا في الرواية العربية المعاصرة، ولا القديمة، فهو يمزج ببراعة القديم بالمعاصر، المحلي بالعالمي، إنه جان دوست، الذي لا يشبه غيره.
الثقافة الكردية ودور اللغة العربية:
يمكن اعتبار جان دوست من الكتاب القلائل الذين يكتبون وينشرون باللغتين (العربية والكردية)، وهذا يثير تساؤلات الانتماء للمشهد الثقافي الذي يكتب فيه، يقول دوست عن المشهد الكردي: «أنتمي للمشهد الثقافي الكردي بقوة. سواء بهمومي الروائية أو بحضوري وتفاعلي مع قراء يتوزعون على خارطة شاسعة تمتد من بانه وسنندج في كردستان الإيرانية مروراً بالسليمانية وأربيل في كردستان العراق إلى ديار بكر وماردين في كردستان التركية وحتى القامشلي وعامودا وبلاد الشتات. منحت لي ترجمة رواياتي إلى اللهجة الكردية السورانية فرصة الحضور في المشهد الكردي السوراني وهو مشهد غني جداً ومتنوع». ثم يفصّل دوست الحديث في تفاصيل المشهد: «المشهد الثقافي الكردي موجود بلا شك. وقد انتعشت الكتابة بالكردية بعد رفع الحظر عن اللغة الكردية في تركيا عام 1991 فنشأت دور نشر عديدة وبرزت إلى الوجود روايات قوية ودواوين شعرية جميلة وقواميس وكتب أطفال إلخ.. وكانت الثقافة الكردية بشقها الكرمانجي قبل ذلك تعبر عن نفسها في المهجر هرباً من القمع والحظر. في الجانب الآخر، أي المشهد الثقافي السوراني فنحن نشهد طفرة كبيرة بعد قيام إقليم كردستان حيث مئات الكتب تطبع وتنشر سنوياً وللمثقفين حضور بارز جداً في المشهد العام، وحيث حركة الترجمة من اللغات الأخرى إلى الكردية بلغت ذروتها في الأعوام الأخيرة. لكن للأسف فإن انقسام الكرد حالياً بين لهجتين رئيسيتين وتطور كل لهجة عن الأخرى بشكل مستقل يضعف إمكانيات توحيد اللغة الكردية. في اعتقادي أن الكردية تتجه لتصبح لغتين مستقلتين».
أما عن القارئ العربي، فيعتبره جان ذكياً وخبيراً في انتقاء الجيد، بالرغم من طغيان الرديء وجهل الكثير من القراء والقارئات. ويؤكد أن رواياته حظيت بقبول حسن خاصة ميرنامه التي صدرت عام 2011 عن مشروع كلمة في أبوظبي. كما حظيت رواية عشيق المترجم بالرغم من صدورها عن دار نشر جديدة برواج جيد واعتبرت الأكثر مبيعاً في عدد من مكتبات الإمارات.
وعن علاقته باللغة العربية، يحدثنا دوست: «أعجبت باللغة العربية منذ طفولتي. نشأت في بيت أبي الذي كان رجل دين عنده مكتبة كبيرة من كتب التراث لعل عمر بعضها ألف سنة. حتى أن مكتبته كانت تضم مخطوطات عمرها مئتا عام. قرأت المعلقات والشعر الجاهلي مع الشروحات، قرأت كتب الفقه والنحو والصرف ودرستها على والدي. تشبعت باللغة العربية وعشقتها. لغة رشيقة جميلة عالية التوتر مليئة بشحنات عاطفية يمكنك التعبير بها عن كل إحساس مهما صغر. اللغة العربية فتحت عيني على عوالم مدهشة من الإبداع وجنون الخيال. منحتني اللغة العربية فرصة دخول مملكة مترامية الأطراف، بل كون لا حدود له تسبح فيه شموس مشرقة. استفدت من هذه اللغة في تطوير لغتي الكردية أيضاً وكذلك تطوير أسلوبي في الكتابة والتعبير. ولعل هذه الميزة جعلت قراء اللغة الكردية في عموم تركيا يلتفتون إلى الأدب الكردي القادم من سوريا. لقد رأوا فيه تميزاً جميلاً لم يعرفوا سره».
إضافة لتعدد انتماءات جان دوست اللغوية، فهو ينتمي كذلك إلى أجناس أدبية عدة، بدأ بالشعر ثم القصة والرواية، كما اشتغل في الترجمة. يقول إن نار الشعر لم تنطفئ في داخله. ولا يمكن لأي كاتب أن يدير ظهره للشعر. كما أن جان، استفاد من أدواته الشعرية في الرواية بشكل كبير. ولعل أهم ما يعلق عليه القراء والنقاد بعد قراءة رواياته، كما يخبرنا دوست، هو اللغة الشعرية التي ربما يفرط فيها أحياناً.
ككاتب سوري يعيش في ألمانيا.. لا بد من الحديث عن الكتابة في المنفى. لكن دوست لا يعتبر نفسه كاتب منفى، رغم مرور ستة عشر عاماً من المنفى دون أن يرى وطنه وبلدته وحارته، وهي مدة كافية لأن تراكم مياهاً جوفية في باطن الخيال وقد حان الوقت لينفجر الينبوع، وفق تعبيرات دوست، والذي يضيف: «المكان الأوروبي أضاف لي عنصر الاندهاش في ما حولي. ما زلت أكتشف أوروبا. أراقبها بصمت. أعاني غربة روحية لا تختلف عن غربة تمرجي في دولة عربية تصر على عروبة سكانها بغض النظر عن انتماءاتهم القومية».
عالم جان الكتابي متعدد المستويات، وشخصياته تعيش في جو من التفاهم والتسامح والتحرر من الحواجز الهوياتية. ففي «عشيق المترجم» هناك بولس المسيحي والمترجم الذي يقع في غرام استير اليهودية ابنة اسحاق الأرمني وهناك الحوذي الكردي الذي يقع في هوى مياسة البدوية، أما في (وطن من ضباب)، فهناك بادين الآميدي الشاعر والمدرس والعاشق. هل يعود هذا المزيج الإنساني إلى خبرات شخصية مأخوذة من البيئة الذاتية أم خيال الروائي أو ثقافة؟ يقول جان دوست: «هناك التجربة الشخصية أولاً. عشت في كوباني مدينتي المدمرة الآن بفضل «تحريرها» في بيئة تتجاذبها هويات كثيرة. المسلمون والمسيحيون، الأرمن والكرد والتركمان والعرب. العشائر المتعددة المتناحرة. الطريقتان الصوفيتان القادرية والنقشبندية، الأحزاب المتصارعة، الغجر والقرباط، والمجموعات المنبوذة من المجتمع العشائري لأنها غير معروفة الأصل القبلي (المهاجرون) مع أنهم أكراد أقحاح قادمون من تركيا وهاربون من القمع ونتائج الثورات الجهيضة. هذه الجماعات كانت في تناحر مستمر. كل يفضل عرقه ودينه ومذهبه. كان أبي على سبيل المثال متعصباً دينياً يفضل مذهبه السني وطريقته النقشبندية ومذهبه الفقهي الشافعي ودينه الإسلامي على كل ما عدا ذلك؛ وبالعكس منه كان جدي والد أمي متسامحاً إلى أبعد الحدود وهو الذي استعان بثلاثة صناع من السريان لبناء محراب مسجده ومنبره».
ثم يذكر دوست بعض المصادر الثقافية التي أثرت حالة التسامح لديه: «في تراثنا الشرقي الصوفي أمثلة كبيرة على فكر التسامح. ابن عربي مثلاً والذي يعتبر قلبه مكاناً تجتمع فيه الكعبة ببيت الأصنام ويلتقي فيه التوراة بالقرآن والإنجيل. مثال آخر من تراثنا الكردي وهو أحمد خاني الشاعر الكبير صاحب مم وزين الذي استطاع أن يصرخ باسم الإنسانية كلها ويطالب الله ألا يدخل أحداً جحيمه حتى الكفار».
الحوار مع جان دوست ثري وطويل، تُجبرنا المساحات المُتاحة للتوقف واختزال الكثير، وفي انتظار جديد الروائي، لا بد من التوقف من وقت لآخر أمام عناوينه المهمّة، فهو فعلاً روائي لا يشبه غيره، ويصعب تصنيفه أو ردّه إلى مرجعيات روائية معروفة يُمكن القول إنه تأثر بإحداها، بل هو مجموعة اشتغالات وهواجس وثقافات وهويات، يحرّكها جميعاً دين واحد، هو الحب، كما يقول عن نفسه في صفحته على تويتر: أدين بدين الحب أنَّى توجهتْ ركائبُه.

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى