قصص عيسى جابلي.. سوريالية بنفس سردي

كمال الرياحي

شهد السرد التونسي -رواية وقصة- موجة ما يسمى التجريب في السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرينغرد النص عبر تويتر، كانت سببا في تراجعه وانحسار مقروئيته، إذ انغلقت النصوص على متونها، وانخرط الكتاب في ظاهرة الركض وراء التجريب وألعابه، حتى نسي بعضهم الاهتمام بمتون النص وأسئلته.
وهكذا غرقت القصة في التشكيل الفارغ والتعقيد المجاني، لكن ذلك النوع الأدبي المؤسس للسرد التونسي يشهد اليوم عودة مبشرة عبر عدد من الأصوات، ومنها الكاتب عيسى جابلي صائد الجوائز الذي يواصل مشروعه القصصي بثبات.
فبعد “أزياء.. لقصائد السيدة سن” التي توجت بجائزة “كتام آر” للقصة القصيرة التونسية، يتوج بمعرض تونس الدولي للكتاب بجائزة القصة عن مجموعته القصصية الجديدة “كأن أمضي خلف جثتي” الصادرة عن دار زينب للنشر.
التجريبية المعدلة
يحاول جابلي في هذه القصص الجديدة أن يعدل مسار القصة التونسية فيعود للتجريب السردي، مؤكدا معاني النصوص وأسئلتها بربطها بالواقع المجتمعي والأدبي في تونس.
ويظهر ذلك جليا في قصص من قبيل “إنك حامل” التي سخر فيها من مؤسسة الرئاسة في معالجة أدبية ذكية لفكرة الرئيس العجوز ما بعد ثورة الشباب، فقلبت القصة شؤون المؤسسة السياسية التي ظلت متخلفة عن الشارع الذي أنتجها بانغلاقها على نفسها.
يرسم الكاتب أجواء سوريالية تؤكد عقم هذه المؤسسة وعدم قدرتها على الإنجاب لذلك سيظل حملها كاذبا ولا يمكنها إلا أن تنفجر في النهاية معلنة فراغها وفشلها. يتدبر الكاتب هذه الفكرة السياسية المحضة في أجواء سوريالية غرائبية ترتقي بها إلى مستوى القطعة الفنية الراقية، فيفلت الأديب من خطرين: الخطر الأيديولوجي والخطر التجريبي.
وضع الكاتب منذ البداية، عبر شخصية قصصية، رهانا شخصيا في قصته “زكريا تامر في اليوم السابع” تمثل في كتابة قصص لم يكتبها صاحب “الخيول”، هذه القصة التي يستدعي فيها شخصية صاحب زكريا تامر، عملاق القصة العربية في جو من العجائبية ليكتب قصة تعبيرية تجريبية.
ويحاور جبالي في هذه القصة فكرة التجاوز وتحدي النموذج عند الكاتب الشاب الطموح أمام قامات تمثل عائقا نفسيا أمام طموحه لينتهي إلى تعديل الفكرة خارج منطق الهزيمة والانتصار و”التجاوز” إلى فكرة “التجاور “فنرى الكاتب الشاب وزكريا تامر معا في آخر القصة تتشابك أيديهما ويذهبان سويا إلى الأفق”.
أسئلة الوجود
إن هذا الأسلوب السوريالي والتعبيري الذي ينتهجه عيسى جابلي في هذا الكتاب يتناغم كليا مع أسئلة القصص التي اجترحها، فرغم المرح الذي يبدو أحيانا ظاهرا بين نص ونص، فإن طابعه الأسود يطغى منذ عنوان المجموعة إلى غلافها الذي يظهر فيه هذا المجهول الملتف في الظلام والبرد كالمسجون في زنزانة منفردة.
كل ذلك يجعل الموت واحدة من مشكلات المجموعة التي حملت أغلب قصصها عبارة موت “كأشباح الموت أو أدنى قليلا” و” الموت خلسة” و”ميتة تلقائية” و”عراجين الموت” وتشير البقية إلى ذلك من “متاريس العتمة” و”خذني معك” و”المسدس الأسود والشلال”.
يظهر الموت في الكتاب ألوانا وتروي لنا الشخصيات حكايات ما بعد الموت الرمزي، في إشارة واضحة إلى حالة الاغتراب التي يعيشها، إن هذه الأجواء تدخل نصوص جابلي في باب النصوص الوجودية المعاصرة التي تذهب لمقاربة الواقع مقاربة سوريالية. ومن هنا نفهم صراخ القاص الشاب في أول قصة مشيرا إلى زكريا تامر: “أكره الواقعية كما يكرهها” بيانا أدبيا.
هكذا تتمدد عوالم جابلي القصصية داخل السؤال؛ سؤال النص: كيف يكتب؟ كيف يمكن أن يتجاوز سابقه؟ وسؤال المعنى الذي يفرض نفسه في ظل واقع إشكالي يطلب من الأدب أن يكون له دور وصوت في حراكه.
يمضي جابلي في مجموعته خلف جثة القصة التونسية الرديئة، مودعا ودافنا إياها بعيدا في قبر مجهول عسى ألا يعود بها كتاب آخرون نراهم -للأسف- يشدونها إلى الخلف بنصوص ضعيفة أفظع مما كان.

(الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى