فيلم «طبيب في الريف»… بحث في ملاذات أهل المدن

عبد الله الساورة

يطالعنا الفيلم الفرنسي «طبيب في الريف» (2016) للمخرج توماس ليلتي وبطولة فرنسوا كلوزي والممثلة ماريان باتريك في قصة بسيطة عن الهروب من جحيم المستشفيات في المدن. البحث عن السكينة والهدوء في القرى النائية. فيلم يرسم صوراً من معاناة ساكنة المدن وبحثهم عن ملاذات آمنة، هروبا من الخناق المضروب حول أعناقهم في المدن.
تدفعنا هذه المقدمة التمهيدية للحديث عن موضوعين تتشابك علائقهما: السينما والمدينة، وفي المقابل السينما والبادية. وسأركز في هذا المقال على كيف تعاملت السينما مع المدينة كثيمة أساسية من خلال تشعب هذه العلاقات الشائكة والمعقدة، وكذلك من خلال الحضور القوي للمدينة (باريس، القاهرة، نيويورك، طوكيو، برلين، الدارالبيضاء، لشبونة..) في السينما العالمية كموضوع مركزي.
وأقف عند حالة المخرج البرتغالي جو بيدور رودريغيز وعلاقته بمدينة لشبونة وأسراره معها، من خلال مجموعة من أفلامه التي رصدت لهذه العلاقة.
تغدو السينما اليوم، ظاهرة ثقافية بامتياز، لا غنى عنها في حياتنا اليومية، إنها جزء من أوقات فراغنا ومن ذواتنا… جزء من تلك المدن التي كثيرا ما سافرنا في شوارعها من دون أن نزورها.. هي جزء من تلك الذكريات البعيدة والقريبة، والمكونة لوعينا كأفراد وكائنات اجتماعية، تترافق مع فيلم ما في لحظة طفولية عشناها أمامه، حيث قرأنا عنوان فيلم ما، ونبرة ومحيا ممثل ما أو زمن تاريخي ما… يجعلنا نضحك ونبكي ويستحوذ الخوف على كامل حواسنا. السينما هي مصنع مذهل من العواطف المسجلة في علاقتنا بالأمكنة في بيوغرافيتنا الصغيرة والمعقدة، ولا أحد يستطيع أن يتحرر من سلطة المكان وسلطة الطفولة ومن سلطة المكان والسينما.
منذ الأفلام الأولى للمخرج جو بيدور رودريغيز (لشبونة/1966) نكتشف سر العلاقة التي تجمعه بالمدينة، وكذا رؤيته للعلاقة القائمة بين الشخصيات والأجساد والجنسانية، حيث الحياة والموت يؤسس عن حدود العلاقة الكامنة بينهما من خلال حكايات الشخصيات في شوارع وحواري ومقابر لشبونة بتناقضاتها.
في فيلمه الأخير «المرة الأخيرة التي رأيت ماكاو» وهو إخراج مشترك بين المخرج وجو روي غيرا دي ماكا، يتحدث عن متحول جنسي يعيش في ماكاو، يكتب إلى صديقه ويحكي أنه انخرط مع أحد الرجال الخطأ ويطلب مساعدته. هنا تطرح قضية الهوية في ارتباطها مع سيرورة الإنسان ورغباته.. وداخل هذا السرد الفيلمي نكتشف ماكاو كمستعمرة برتغالية ومدينة للأمة.
في فيلمه «أوديت» (2005) يعود المخرج للتلاعب بهوية الفرد، يحكي الفيلم عن مستخدمة في متجر تجاري كبير، تجتاحها رغبة أن تصبح أما. يشاركها هذا الفعل خطيبها (روي) الذي فقد حبه الكبير (بيدور) في حادثة سيارة.، يحاول التعويض عن ذلك عبر علاقات متعددة من الرجال، بينما أوديت تفكر أن تكون حاملا من (بيدرو) في علاقة طيفية وعابرة للرغبة.
في فيلم «الموت مثل رجل» (2009) إطار عام لمجموعة من الصور النمطية بين الجنسين، مزيج بين الذكورة والأنوثة المتطرفة. يحكي الفيلم عن متناقضات متحولة جنسيا تدعى تونيا في مرحلتها النهائية من حياتها النهائية. يحتل التدين المسيحي جانبا مهما من حياتها، وتحقق في النهاية رغبتها في كبح رغباتها الحميمية: أن يكون لها جسد امرأة . أن يتحول توني إلى تونيا.
في سينما رودريغيز، يحضر الحضري والمديني بشكل ملحوظ في تحركات الشخصيات وتنقلاتهم في سيناريوهات تكثف هذا الحضور. تحضر المدينة وليست أي مدينة، لشبونة بكل عناوينها، حيث تغدو كيانا معيشيا مشكلا واحد من جدول واقتراحات هذا المخرج. في فيلم «المرأة الأخيرة التي أرى فيها ماكاو» تظهر المدينة بوضوح: مدينة للظلام ومتاهة من الشوارع والأزقة والناس حيث لا يستطيعون الحديث، على الرغم من أن المدينة تحت الادارة البرتغالية طيلة أكثر من 400 عام، حيث لا أحد يتحدث اللغة البرتغالية هناك. إنها الهوية والكيان اللذين يؤثران على سير الأحداث من بداية الفيلم حتى نهايته.
اللامنتظر وغير المقصود والصدفة عامل حاضر في سينما رودريغيز، حيث المدينة لا تستطيع السيطرة عن هويتها، حيث الشخصيات الفيلمـــية تخضع لمجموعة من الأدوار المتعددة.
فالمفاجأة في هذا الفضاء الاجتماعي للمدينة، عمل متكرر في أفلام هذا المخرج البرتغالي: بناء السيناريو انطلاقا من لعبة التشويق وكشف أسرار المدينة في الأجزاء المشكلة للبناء السردي للفيلم.
التناقض بين الليل والنهار وتأثيرها على الشخصيات في قصص المخرج، وهي أيضا عناصر أساسية في سينماه. وتقريبا جميع أفلامه تدور في مدينة لشبونة، بشكل دقيق لأن المخرج يستهويه الضوء الدائم لأجواء المدينة.
يبحث المخرج رودريغيز عن (الأنا) في مدينة تعج بالمتناقضات بحثا عن الحميمي في شخصياته الفيلمية مستخدما في ذلك مجموعة من القضايا الاجتماعية والثقافية والسياسية والهوية في تداخل أبعادها. فالنظام الرأسمالي له تأثير على حيوات هذه الشخصيات الفيلمية.
في أفلام هذا المخرج نجد هذا التلاقي المعقد والمركب بين الحكايا الفردية والسياقات الحضرية والقضايا الميكرو- اجتماعية التي تحضر بطريقة جمالية وجذابة ومثيرة للاهتمام. تطرح بعدا ونظرة إثنوغرافية لأعمال هذا المخرج المتميز في تعبيراتها الكبيرة عن سينما حوض المتوسط بتجلياتها الحياتية الكبرى.
تبقى السينما في هذا السياق الإنساني نافذة مفتوحة تؤلف بين الآف القصص مع الآف الشخصيات مشكلين وجودا وطريقة خاصة لتعلم اللعب الرمزي، ونشاطا ممتعا لتحقيق الرغبات في فضاءات تتراقص فيها أمثلة عدة من الخير والشر.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى