الوثائقي «أبجدية الخوف» الرومانية هيرتا موللر… وهم الهرب بالكتابة والاحتماء باللغة

محمد عبد الرحيم

«أنا مطلوبة للحضور يوم الخميس في تمام الساعة العاشرة. أصبحت أُطلَب للحضور على نحو متزايد، ظل يتزايد على الدوام.. يوم الثلاثاء في تمام الساعة العاشرة، يوم السبت في تمام الساعة العاشرة، يوم الأربعاء أو يوم الاثنين، كأنما كانت السنوات أسبوعاً» (من رواية «ليتني لم أقابل نفسي اليوم»).
هذه الكلمات التي خطّتها هيرتا موللر تعبّر تماماً عن عالمها وروحها القلقة على الدوام، الروح التي صنعها الخوف، ومن خلالها تكوّنت رؤيتها وكلماتها وحياة رواياتها التي تتخذ من تفاصيل حياة عاشتها هي ورفاقها موضوعها الدائم، حتى أن لجنة جائزة نوبل، التي حصلت عليها موللر عام 2009، ذكرت ضمن مُسبباتها قائلة .. «إن لديها حقاً قصة ترويها عن نشأتها في ظل نظام ديكتاتوري». هذه القصة أو الحكاية تناولها الفيلم الوثائقي «أبجدية الخوف»، الذي يُشبه إلى حدٍ كبير أعمال موللر، والذي يستعرض رؤيتها للعالم والنظام القمعي الذي أنهك روحها وخلق حروف كلماتها. الفيلم من إخراج جون ألبرت يانزن، وإنتاج 2015. وعُرض مؤخراً ضمن أسبوع أفلام معهد جوته في القاهرة.

الخوف اللامرئي

يتناول الفيلم حياة هيرتا موللر والمناخ السياسي في رومانيا، خاصة وقت حُكم نظام نيكولاي شاوشيسكو، الذي حكم رومانيا بين 1974 و1989. نظام ديكتاتوري قاس، خلق حالة مزمنة من الرعب والخوف. هنا تبدأ موللر بالحديث عن معنى الخوف، الذي تراه مثل (رأس كلب كبير غاية في القبح) وتفرّق ما بين الخوف العادي/الطبيعي، الذي يعرفه كل شخص، وما بين الخوف المركّب، وهو الذي تخلقه السُلطة وترعاه وتحيا من خلاله. «السلطة القمعية تحاول أن تجعل من الخوف خيطاً رفيعاً لدرجة أنه يصبح لا مرئياً». هذا هو الخوف الذي تخلقه السُلطة، أن يتنفسه الجميع كالهواء، وأن يصبح ضمن سماتهم وتكوينهم وتصرفاتهم، خوف لا مرئي كامن ودائم، وهو الذي يُفسر الكلمات المغناة في الفيلم بأن شاوشيسكو لم يمت، بل هو حي في نفوس الجميع. الحالة نفسها يؤكدها العديد من الشخصيات التي ظهرت في الفيلم، كعميل المخابرات وأمن الدولة السابق، الذي تقاعد بالمصادفة السعيدة، ويُصر على أن مؤسس دولة الرعب لم ولن يموت!

مُصادفة الديكتاتور

«إن مناهضةَ الديكتاتورية موضوع اختارته لي حياتي»، هكذا تقول موللر، كما تتساءل في بداهة ودهشة عن سبب حالة شاوشيسكو، كيف أنه لا يمتلك كاريزما هتلر أو ستالين ــ رغم سلطتهم وتسلطهم المأساوي ــ أن يصبح هكذا هذا الأخرق، عديم الموهبة حتى في خطابات الرئاسة؟ كيف أصبح كذلك وغيّب وعي شعب بأكمله، وترى أنها لحظة جنون امتدت حتى الآن. جنون أصاب الناس، جنون تأكد من خلال أجهزة الأمن وحالات الاعتقال والسجن والمراقبة والموت، جنون محو الذاكرة وإحلال الرعب والخوف، لتبدو الكلمات أكثر تجرداً وخشونة ووحشية. تذكر موللر في الفيلم أنها دخلت منزلها لتجد وسادة على شكل فرو ثعلب مقطوعة الذيل، وحاولت إقناع نفسها بأن ما حدث نتيجة اهترائها مثلاً، إلا أنها اكتشفت أن أطراف الثعلب تم فصلها، وبعد ذلك الرأس.
هناك مَن يدخلون منزلها ويتركون لها الرسائل، فهذه أمثله لما سيحدث لها حقاً. وما بين حالة الجنون هذه وإجبارها بالوشاية برفاقها، عاشت المرأة وجاءت رواياتها، التي توثق لحياتها وما عاشته رومانيا في ذلك الوقت. حتى بعد أن غادرتها.. هنا مقبرة الأب، وفي الأصل تاريخ الأم، التي سيقت للعمل ســـــت سنوات في روسيا ــ كان قرار ترحيل الأقلية الألمانية من رومانيــــا قد صدر عام 1945، وقضى بالقــــبض على كل الألمان بين سن 17 و45 وترحيلهم، قسراً، إلى روسيا، والعمل في معسكر الأشغال الشاقة في أوكرانيا ــ عرفت ميللر بعدها أن اسم «هيرتا» هو اسم زميلة لأمها ماتت في معسكرات الاعتقال هذه.

وهم الكتابة ووهم اللغة

تأتي هيرتا موللر إلى الجزء الأعمق والأكثر صراحة في الفيلم، فمن الممكن أن يذكر العديد ما حدث في رومانيا ولم يزل، وجهات النظر المتعددة لرجال ونساء، ولكن الكاتبة حصلت على جائزة نوبل، فالأمر مختلف وهي تتحدث من خلال اللغة، هذه اللغة التي تراها انعكاسا لما حدث ويحدث، فلا تساعد على التحرر أو أي كليشيهات من هذا القبيل، إنها استنزاف ذاكرة ليس أكثر، ابنة التجربة، لغة القسوة والعذابات، كما أنها ليست بديلاً عن الوطن، فلا يوجد وطن بالأساس، تشوّه الوطن ومفهومه ومعناه، والإحساس به، الكلمات أكثر قسوة من مجرد حروف متراصة، وهو ما جعلها في النهاية تلعب ألعاب كولاج الحروف، الكلمة المطبوعة تقوم بفصلها من سياقها، وتعيد ترتيب الكلمات المُنتزعة من سياقات مختلفة، ها هي الكلمات، وها هي الحروف.. وما السياق في النهاية إلا حالة لانهائية من الخوف.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى