سعدية مفرح تلامس الوجد الصوفي

محمد علي شمس الدين

يبتعد عنوان سعدية مفرح في ديوانها الأخير «مشاغب وأنيق» (الدار العربية للعلوم – ناشرون) عن مرمى النبلة، فالقوس المشدودة للقصيدة الجوهرية في الديوان، وهي «أسئلة الفتى الأنيق» تشدّ في اتجاه عمقي من مياه جوفية ذات غموض وإيحاء كبيرين بسبب حب ملتبس عاشته الشاعرة… في حين أن كلا من العنوانين «مشاغب وأنيق» و»الفتى الأنيق» يحمل نحو ظواهر وصفية لا الى بواطن مركبة – وكأنّه عنوان سينمائي لمغامرة – ويظهر من خلال أوجه هذا القتى في القصيدة الأساسية. إنه على غير ظاهر العنوان، سبب لكينونة الشاعرة من ألفها إلى يائها. وأنّه، وهو غائب، شديد الحضور، بل كلي الحضور بكل ملامحه، الخفي منها والضاغط، البسيط او المستريب، لأنه يقود امرأة القصيدة نحو حياتها ونحو حتفها في آن واحد، وإلا فما الذي يدفعها الى ان تكتب، كما تقول: «قصيدة ميتة وتكفنها كجثة في ورقة بيضاء لكي تنساها؟» (ص 16 ). وما الذي يدفعها لكي ترسم بوهج هذا الحب نفسه قبرها الافتراضي: «قبراً صغيراً يكفي ليضم اربعة وستين كيلواً من العظم واللحم والدم، وأشياء أخرى لا تبين/ قبراً بطول مائة وواحد وستين سنتيمتراً وحسب». ومن ملامح هذا القبر أنه لا يتقرفص فيه الجسد الفاني، وهو عميق ودارس بما يكفي لينساه العابرون وإنه أنيق ليكون لائقاً بالحلم وإنه بعيد ليكتفي بوحشته الخاصة وندي ليستظل تحت شجرة خزامى واخيراً… هو دامس في ظامته ليكون قبراً حقيقياً» (ص 18 / 19).
سيكون مدعاة للعجب لو علمنا ان هذه الأوصاف لقبر منشود واردة في قصيدة حب. فالشاعرة الكويتية ذات التجربة الطويلة في كتابة الشعر وتقديم الشعراء تستعيد من خلال هذه القصيدة تقريباً موجز سيرتها الشعرية من «آخر الحالمين» (الكويت 1990) مروراً بـ «قبر بنافذة واحدة» (القاهرة 2008) وصولاً الى «هذا الجناح جناحي» (بيروت 2015). وهي اذ تقوم بذلك فكأنها تقوم في تأريخ شخصي، ولكنه تاريخ شديد الكثافة والتخيل، والحب فيه يتصاعد كبخار من موقد الحياة نحو سماء لانهائية.
حرارة النص وتفاصيل الأحوال لا تجعلك تستريب في مسالة جوهرية في شعر سعدية مفرح المعاناة أي الاكتواء الحقيقي بنار المسحوب منهما، لا يجعل هذه التجارب تدق على العصب مباشرة. هي كمنحوتات مكتملة وجامدة. في حين ان الحرارة الإحساسية في نص سعدية مفرح هي فائرة الى حد الغليان، هذه الحرارة كانت كافية لتكتب الشاعرة نصف ديوانها تقريباً في قصيدة واحدة. وكان بإمكانها ان تكتفي بذلك أي بهذا النصف الكافي من الديوان، لأن النصوص التي تأتي بعد النص الأساسي هذا تنحو منحى الرماد النثري: إعادة البكاء على طلل دارس، او أحافير صغيرة لذكريات قديمة، بيروت، تأبين لحظات ميتة، هذيان رأس السنة، منسيات… وكأنها تكتب ذكرياتها الغابرة بقلم قريب. في حين أنها تتوهج في القصيدة الأم توهجاً يتجاوز البكاء على طلل دارس من حب ورغبة، وذلك في اتجاه التسامي الأعلى اي الحب السرمدي. وهنا ينجدها قاموس متسامٍ مستوحى من النص القرآني في بلاغاته المتنوعة.
يلعب بيت شعر لابن الفارض دوراً في تحديد الاتجاه الوجداني للشاعرة في قصيدتها الأساسية. وهي تضع هذا البيت في صفحة بمفردها، بعد الإهداء مباشرة. البيت هو مطلع الفائية المعروفة للشاعر الصوفي: «قلبي يحدثتي بأنك متلفي/ روحي فداك عرفت أم لم تعرف».
أمّا القصيدة الأولى في الديوان، والموضوعة داخل اطار مستطيل، فهي بعنوان مأخوذ من الشاعر السعودي الراحل محمد الثبيتي «ما الذي غيرك». وتأتي قصيدة سعدية لتضرب على الوتر المرن الموجع: «لقد كنت أنت أنا/ وكنت أناك فانزلتني من سماوات عرشك مغمضة/ وأوقعتني في الشرك/ ما الذي غيّرك؟»
وهذا الحداء الحزين على تفعيلة «فاعلن» مسبوقاً ببيت ابن الفارض المذكور، يحدد طريق السلوك الشعري للشاعرة، بمعنى انها سالكة في طريق.
هنا استدرك قليلاً لأعيد النظر في افتراض العنوان نقيضاً لاتجاه القصيدة. نعم هو نقيض ولكن بالمعنى الذي غالباً ما أورده شعراء عرفانيون حول رمز الغواية على انه قد يكون فتى جميلاً او فتاة على غرار الفتاة التي أغوت الشيخ الصنعاني المتعبد في كتاب «منطق الطير» للعطار النيسابوري. نعم أرجح هذا المنحى. ففي قصيدة «اسئلة الفتى الأنيق» ثمة ما يشبه خفة الفتاة التي أغوت الشيخ الصنعاني فتبعها من صنعاء الى بلاد الروم. وقصيدة سعدية مفرح ذات استقصاء وتفريع وتتبّع، تصف الفتى بأنه «الغتى الغر الأنيق» وأنه صاحب اسئلة «كرأس الإبرة» وإنها تتبعه في كل أحوالها: حين تقص شعرها الطويل، حين تستزيده صوتاً تحت الضلالة، حين تحمل منه حملاً متخيلاً، في غنائها الساقط من ثغرات صوته، «كلما غنى لي سامريتي القديمة»، في «الإحباط وفي جناح الطيران…
ولا بد من التوقف عند قولها في وصفها له «وكأنه كائن عابر للأزمنة والتخوم»: «وحده تماماً/ في القديم والحديث/ وحده جداً في الماضي والحاضر/ وحده ابداً في الآتي/ وحده دائماً في الكيان الوحيد/ به /كله».
صار من المرجح اذن افتراض الحب هنا بأنه وجد صوفي، والسياق الإيقاعي الشعري ليس موزوناً على غرار القصيدة الأولى «ما الذي غيّرك؟»، وقصائد سعدية مفرح في معظم دواوينها السابقة. السياق الشعري مسترسل لا نسميه قصيدة نثر بالموازين القديمة الدقيقة التي رسمت ملامحها سوزان برنار وأفاض فيها عبد القادر الجنابي اخيراً، ولكنه سياق قريب من «الرسولة بشعرها الطويل» لأنسي الحاج ومن قصيدة «منارات» او «مرارات» لسان جون بيرس. ففي قولها «صوتي المريض/وجناحي المهيض»، تلاحظ توازنات وتعاطفات لغوية كما تلاحظ توزيعات هندسية للكتل اللغوية ما يبث إيقاعاً غير نمطي في النص. ويسمى بالفرنسية «verset» ولعل ترجمته للعربية تقرب من» وزن خفي»، خذ مثلاً قولها في وصفه «المراوغ بين ضحكة وأخرى /النائي حتى أطراف السماء السابعة /القريب حتى سويداء القلب / الشجيّي الحيي الرحيم»، فهذا التوزيع، وهذا التوالي من دون فاصل للصفات الثلاث … الشجيي الحيي الرحيم قريب من الوزن وإن لم يكن وزناً… ثمة تقارب بين الرحمن الرحيم والحي الرحيم. يلاحظ ايضاً قولها «صوتي المريض /وجناحي المهيض / صوتي المختلف وغير المؤتلف مع صورتي / … صوتي الحارق المحترق الطالع من كهوف الأبجدية… وذلك يشير الى تأثر الشاعرة بالإيقاع القرآني. هذا الإيقاع الذي لم يقلد الشعر العربي السابق عليه، لكنه جاء بإعجاز موسيقاه الخاصة، الموسيقى المحيرة للنثر.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى