محمد الإحسايني.. رفقة ابن جني وحنين للدار البيضاء

 

في المحطة الثانية برفقة عدد من الكتاب والمبدعين العرب، للتعرُّف على طقوسهم في الإبداع والكتابة والقراءة خلال شهر رمضان الكريم، نسافر مع الكاتب المغربي محمد الإحسايني في ثنايا طفولته بمدينة الدار البيضاء.

يستعيد الروائي والمترجم الإحسايني المولود بمدينة تافراوت جنوبي المغرب عام 1936، ما ارتسم في ذاكرته من أجواء التعايش التي كانت سائدة بين العرب والأوروبيين في الدار البيضاء، ومشاهد من مشاكسات الطفولة المؤثثة بالحكي والقص ولعبة الورق وبالمعارك و”كأننا جيوش تاريخية أو ننظم حلبات للملاكمة”.

وقلبه على الماضي البعيد، يتمثل الإحسايني، الذي تقلب في عدة مهن قبل أن يستقر به الحال لعقود طويلة في بلاط الجلالة، أجواء الصوم بما ينطوي عليه من نكران الذات ومن سمو، ويختار تخصيص أغلب ساعات الليل للنهل بشراهة من كتب لم أكن يقربها في شهور الإفطار ويقرر الغوص في “كتاب الخصائص” لابن جني.

وفي ما يلي ورقة الكاتب ردا على عدد من أسئلة الجزيرة نت حول تفاعله مع شهر رمضان إبداعا وقراءة وذاكرة:

الشعور الذي كان ينتابني منذ أن بدأت الصيام في فترة المراهقة حتى اليوم، هو مزيج من إحساس فياض بمغادرة أيام الطفولة والمراهقة إلى مرحلة الرجولة، وفي هذا الانتقال كتبت ألذ النصوص في فترات الخلوة الانفرادية، في هدوء الليل وسكونه، وأحياناً يمتد السهر الجميل الروحاني المفعم بالرجولة والمسؤولية إلى ما بعد السحور وصلاة الفجر.

 

وكم من مرات أجدني محاصراً برغبات عديدة لا أدري مصدرها، رغبات قراءة هذا الديوان الشعري أو إجراء بحث ما، بحيث لا أعدم قابلية للتلقي بمزيد من الاهتمام.

ترتبط طقوس رمضان عندي أيضاً بمرحلة الطفولة البريئة، لم أكن بعيدا عما يقوم به الكبار إلا بقدر، فهناك فسحات هامة بين صلاة العشاءين، أتذكر أننا بعد إنهاء الواجبات المدرسية، في رمضان، نتخلص من ثقل يرهقنا، ننسى كل شيء.

لذلك نُحيي نحن الأطفال طقوسنا على انفراد من الكبار، كنا نتبادل الحكي والقص ولعبة الورق، وأحياناً نتعارك كأننا جيوش تاريخية بواسطة “دق السيف”، أو ننظم حلبات للملاكمة، وأحيانا لعبة “ديني إفري”.

وقد نسهر في “الحلاقي” (جمع حلقة) وهي فرجة شعبية، دون الحديث عن طقوس الإفطار مع أفراد الأسرة، حيث طقوس الحريرة (حساء مغربي) التي كانت تُحضّر منذ الساعات الأخيرة من الصباح، مع البغرير والمسمن والبطبوط (أنواع من الخبز المغربي)، وأنواع الحلويات المختلفة.

مثل هذه الأجواء والتحضير لها تكاد تنمحي حالياً أمام العمارات والإقامات المنعزلة في جزر منفردة حيث كل ساكن يعيش معزولا عن غيره، ولا يكاد الجيران يعرف بعضهم بعضاً لأن نمط الحياة تغير تغييراً جوهرياً.

فقد تطورت وسائل الاتصال المرئية والمسموعة وأصبح للحياة مذاقٌ جديد واختفت الكثير من مظاهر أيام زمان عندما كان الأطفال يستأنسون بالنفّار والغياط بعد صلاة التراويح وفي أوقات التسحر، حقاً كانت هناك طقوس أليفة حتى إننا نشعر بالأسى عند انتهاء شهر رمضان.

 

كنت محظوظا لأني قضيت طفولتي وشبابي في مدينة الدار البيضاء حيث هناك مدينة قديمة تليها أحياء راقية وتلي هذه الأحياء بدورها أحياء شعبية قديمة حيث تتجمع الطقوس والعادات المختلفة في عالم رمضاني عز نظيره.

في هذه المدينة كانت تلتقي الفئات المجتمعية الغربية والأجنبية بالعائلات العربية المغربية والمغاربية من جزائريين وتونسيين ومن سكان شمال المملكة وجنوبها بالإضافة إلى الجاليات الأجنبية من فرنسيين وإيطاليين وإسبان.

في الأحياء العربية المتاخمة للأحياء الأوروبية كان هناك تعايش مثالي، وكثيراً ما تقتحم جارة أوروبية مساكن جيرانها المغاربة لمشاهدة التحضير للحريرة اللذيذة، علماً أن الجارات الأوروبيات يخفقن غالباً في تحضيرها، ومن ثم فإن أغلب العائلات المغربيات يتبرعن بين حين وآخر بوجبات الحريرة للجيران الأوروبيين.

حاليا أخصص أغلب ساعات الليل للنهل بشراهة من كتب لم أكن أمسها في شهور الإفطار، وقررت في هذا الشهر قراءة كتاب الخصائص (الجزء الثاني) لابن جني الذي يقول في باب “المجاز إذا كثر لحق بالحقيقة”، “اعلم أن أكثر اللغة مع تأمله مجاز لا حقيقة…”.

إن هذا الإحساس المعيش في شهر رمضان هو امتداد عميق لفلسفة الصوم الجماعي ونكران الذات، وفيه نوع من السمو يتيح لي عادة خرق المألوف العادي في الكتابة الإبداعية. أشعر أن الحياة تغيرت كثيراً ولم تعد لها نَكهة الماضي السحيق، ولا الماضي القريب.

(الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى