عزالدين ميهوبي: الجزائر أعطت أولوية للأمن… والمثقفون طوق النجاة

اسامة حبشي

الشاعر والروائي عزالدين ميهوبي، حتى وهو يتولى منصب وزير الثقافة في الجزائر، هو حالة من الرؤى والأفكار التي تسبح ضد التيار، سواء من خلال سياسة الاستثمار التي ينتهجها، أو عبر قراراته الإشكالية، ومنها منع وزارة الثقافة من إنتاج أي عمل سينمائي، إلا إذا كان مأخوذاً من عمل أدبي. على هامش مشاركته في «ملتقى القاهرة الدولي الأول لتجديد الخطاب الثقافي»، التقينا عزالدين ميهوبي وكان هذا الحوار:
> ما بين الشاعر والوزير، أليست المسافة شاسعة؟
– منطلق الإنسان دائماً هو من كونه مواطناً عليه مسؤوليات في بلده، وهو في الأساس يسعى لأن يكون له دور في مجتمعه، وبالتالي المثقف بلا شك هو من يقدم القيمة المضافة إلى المجتمع، سواء فى شكل كتاب أو عمل سينمائي أو لوحة، أو مسرحية. والمجتمعات التي بنت واقعها على الثقافة تجنبت الكثير من المنزلاقات الخطرة في المستقبل، بمعنى أنك دائماً تحاول أن تشكل الرئة الثالثة في المجتمع وهي المثقفون، الذين يمكنهم أن يكونوا فضاءً تأخذ منه السياسة. وأنا ممن يقولون أن المثقف مطالب بأن يكون له دوره السياسي، ويجب ألا يبقى دائماً مهموماً بقاعدة «السلطة كالنار، إذا اقتربت منها تحترق، وإذا ابتعدت عنها تبرد»، أو يقول سآخذ منطقة الدفء. لا هذه ولا تلك، وهنا السؤال: لمن سيكون الانحياز؟ أعتقد أن الانحياز يكون للفكر المؤسس على الحرية، على رؤية جديدة، رؤية تقود إلى وضع الثقافة فى منظومة التنمية الشاملة للمجتمع، ضمن إطار التعليم وإطار الإعلام والفكر الاستراتيجي. لذا قد يكون المثقف ناقداً للسلطة، ولكن يجب ألا يهدم مؤسسات الدولة. وعموماً؛ الثقافة لا يمكن الاستغناء عنها بأي شكل من الأشكال، وعلى المثقف أن يتحرر من القيود، ودور الشاعر لا يقل عن دور الوزير، ولكن فقط اتساع حجم المسؤولية هو الفارق بالطبع.
> ولكن هناك تعريفات شتى للمثقف، فمن أيٍ منها تنطلق في حديثك عنه؟
– نحن يجب أن نكون إزاء مثقف منتج لقيمة ما في المجتمع الذي سيحكم عليها لجهة مدى تأثيرها في تطوره. الأحكام الجاهزة على المثقفين لا أميل إليها، فلا يمكن أن نقول هذا مثقف سلبي أو العكس، وعلينا أن ندعه ينتج وللمجتمع أن يقبل إنتاجه أو يرفضه، مع ملاحظة أن هناك من الأفكار ما يتقبلها المجتمع بعد فترات طويلة. مثلاً؛ هذا ما حدث في الجزائر مع مالك بن نبي، وهو مفكر حضارة، عندما تقرأ تعيد قراءة ما كتبه في الستينات عن الأفكار الميتة والأفكار المميتة، تستشعر أنه كان يستشرف المستقبل. فمن الأفكار المميتة، تلك الفتاوى التي زرعها بعض المتطرفين في فترة التسعينات والدعوة إلى قتل الأطفال؛ لا لسبب إلا لأنهم ولدوا في مجتمعات كافرة من وجهة نظرهم، ومن ثم جرى قتل بعض الكُتَّاب، ووأد حرية الفكر.
> أليس ذلك الدور للمثقف المنتج هو بالأحرى دور وزارة الثقافة؟
– الدولة لا تنتج ثقافة. المجتمع هو من ينتجها. الدولة/ الوزارة ترعى الثقافة وتوفر لها البيئة الصحية. أقصد أن الدولة لا تنشئ شاعراً أو روائياً. هي توفر المال والقوانين والمنشآت، وأيضاً لا بد لها من ألا تمنع أو تصادر عملاً ما. والوزير يستعين برؤية المثقف وتصوراته، والثورات في التاريخ اتكأت على نظريات وأفكار لمثقفين عظام.
ولكن الحديث عن الدور المتبادل، سواء للوزارة أو المثقف بهذه الطريقة يحتاج إلى مناخ مستقر، وهو ما يفتقده العالم العربي في السنوات الخمس الأخيرة. نحن مررنا في الجزائر في التسعينات بمرحلة أسوأ مما نشاهده الآن، استهدف فيها الإرهابُ العقل، ورموز دولة الاستقلال من ساسةٍ، ومن شرطةٍ وجيشٍ. ومن ثم كان القتل المجاني للكتاب والمبدعين والمفكرين. الإرهاب ليس أعمى، لأنه يستهدف بكل دقة أشخاصاً بعينهم وأفكاراً بعينها. الجزائر في تسعينات القرن الماضي أعطت الأولوية للأمن، الذي لا تتحقق تنمية من دونه. كان الأمن هو المسألة الحيوية بالنسبة إلى الناس، وعلى التوازي مع الأمن تصبح الثقافة جزءاً أساسياً، لأنها السبيل لاستنارة الساسة. في يوغوسلافيا الاتحادية، لجأوا إلى المثقفين، ليقودوهم إلى النجاة من صراع القوميات، فوجدنا البوسنيين يختارون علي عزت بيجوفتش وهو مفكر، والصرب لجأوا إلى رادوفان كارازتش، وهو شاعر، وفي كوسوفو لجأوا إلى إبراهيم ريجوفا، وهو روائي كبير. إذن المثقفون الكبار هم طوق النجاة في الأزمات.
> على رغم الكتابات التي حذرت من الإرهاب أو فضحته في الجزائر وغيرها من البلدان العربية، لا يزال الإرهابيون يرتعون هنا وهناك بل ويتفاقم إجرامهم؟
– تجربة الجزائر قبل الثورة أفرزت مبدعين هم نتاج الحركة الوطنية السياسية، ثم أنتجت الثورة جيلاً تفاعل معها، بما يضمن استمرارية النضال المسلح. ثم جاء جيل حاول رسم صورة جديدة لجزائر ما بعد الاستقلال، رأى ضرورة الخروج من شرنقة الأيديولوجيا، إلى الجماليات وإلى التحرر.
ثم كان الجيل الذي أبدع أدباً وفناً وفكراً ضد الإرهاب. على المجتمعات التي تتعرض لأزمات شبيهة، أن تقرأ ذلك لتستهدي بذلك الفكر، كما هو الحال في قراءة التاريخ بالطبع.
> لكم رؤية في الاستثمار الثقافي، فكيف كانت الفكرة، وماذا عن تنفيذها على أرض الواقع؟
– الاستثمار في وزارة الثقافة كان الدافع لديَّ لنزع الفكرة التي رسخت لدى الناس من أن الدولة هي التي تنتج الثقافة. هم يرون الاستثمار أمراً عادياً في مجالات أخرى كالصناعة والتجارة، ونحن نسأل لماذا لا يشمل الأمر وزارة الثقافة؟ لرجال الأعمال الحق في الدخول في مجالات ثقافية، ومن ثم يخف العبء عن الدولة، وتكون هي راعية لذلك وتراقبه. لذا وجب أن يتكفل المجتمع بالشأن الثقافي، والدولة تقدم الخدمة العمومية للثقافة، ولكن التنافسية مهمة جداً لأنها تنتج النوعية. لهذا نحن ندعو أصحاب المال الخاص إلى اكتشاف الحالة الثقافية من بُعد ثقافي اقتصادي، وبدأت هذه الدعوة في الإثمار على أرض الواقع.
> هل من الممكن أن يشمل هذا الاستثمار في المشاريع والأفكار الثقافية، التعاون مع بلاد أخرى كمصر على سبيل المثال، وهل هناك من أفكار طرحت بينكم وبين وزير الثقافة المصري حلمي النمنم في هذا الصدد؟
– توسيع فكرة الاستثمار الثقافي، لم نطرحه خارج الجزائر في شكل رسمي، ولكن تم الحديث مع الوزير حلمي النمنم في أهمية توسيع التعاون الثقافي بين البلدين.
> المبدع العربي عموماً ينتظر دائماً الاعتراف به من الغرب، فإلى أي سبب يرجع هذا؟
– عندما ترى أن عدداً كبيراً من المبدعين العرب هاجروا إلى الغرب، فهذا دليل عدم وجود ثقة، وبعضهم يقول لم نجد البيئة اللازمة والحرية المطلوبة، وبعضهم بقي لأنه رأى ضرورة ذلك من أجل التغيير بالأدوات المتاحة، والبعض لم يتخلص من العباءة الأيديولوجية، وهناك أيضاً من لم ينجح في فك شيفرة المستقبل، فانغلق في الماضي. البعض يغرد خارج السرب، والبعض يقابل صعوبات بيروقراطية مزعجة ومصاعب مادية. يمكن للمبدع أن يمتلك حيزاً من الثقة في نفسه، حتى لو لم يتحقق ذلك في محيطه.
> في روايتك «اعترافات اسكرام»، قراءة للمستقبل، فهل ترى أنها ظُلمت نقدياً؟
– هي بالفعل تنطوي على تنبؤ بالمستقبل، وربما كان ذلك لأنني أحب عموماً الأعمال الاستشرافية والاستراتجية، وهذا يولد لدى الكاتب شعوراً بالرغبة في اكتشاف ما يمكن أن يكون قبل أوانه، أو قراءة المستقبل من زاوية إبداعية، ولتؤسس للمستقبل قبل أن يصل، بمعنى أنك تستدعيه من خلال ترجيح فرضيات معينة، ومنها على سبيل المثال وصول بعض البلاد إلى مرحلة التفكيك والانقسام. أما عن النقد، فهناك نقص فادح في النقاد في الساحة العربية. الغالب على تلك الساحة هو النقد الصحافي، والانطباعات الشخصية. النقاد الأكاديميون كُثر، ولكنهم حبيسو الجامعات والملتقيات الأدبية المغلقة.
> كيف ترى الساحة الشعرية العربية الآن، وماذا عن تجربتك الخاصة، سواء على مستوى اللغة أو التجديد؟
– الشاعر لا يمكن أن يرتدي معطفاً واحداً طوال الوقت. الذوق تغيَّر، والثورة الرقمية غيَّرت الكثير، ما يستدعي ضرورة التجديد والبحث عن لغة حية مختلفة. وتجربتي أنا تنبع من فلسفة خاصة، وهي أنني لست كالماء الآسن، فلا يمكنك أن «تحلب في غير إنائك»، وهذا يتطلب تطوير أساليب التعبير واللغة، وأيضاً تجديد الفكرة. التجديد يجنب الكاتب الدخول سريعاً في طي النسيان.
> هذا يأخذنا إلى الجوائز الأدبية، فكيف تراها؟
– الجوائز؛ قليلٌ منها الذي يتحلى بالصدقية، أما الغالب فيها فينطوي على بعض المصالح والأمور السياسية. الجوائز هي ظل السياسة عامة، ولكن هناك أيضاً بعض الجوائز العربية التي تحاول التزام البُعد المهني، ولكن في المجمل لا تخلو جائزة من الشك للأسف.
> هل هناك أزمة بين وزارة الثقافة الجزائرية والمخرج مرزاق علواش بسبب اشتراك فيلمه في مهرجان في إسرائيل؟
– مرزاق علواش، مخرج كبير بلا شك، وهو من أهم المجددين في السينما الجزائرية وله تجاربه التي اشترك بها في أكبر المهرجانات العالمية أيضاً. وهو غزير الإنتاج. وبالمناسبة فيلمه العبقري «عمر قتلته الرجولة» الذي أخرجه عام 1976 سيُحتفى به في مهرجان وهران هذا العام. علواش له رؤيته، التي نحترمها، ويمكننا أن نختلف معه منهجياً. ولذلك، رأينا، باعتبارنا مساهمين في إنتاج هذا الفيلم، أن مشاركته في مهرجان في الأرض المحتلة لن يضيف له شيئاً.
> هل يمكن أن يكون لعلواش دور في المجال الاستثمارى السينمائي الذي تنتهجونه حالياً؟
– بالطبع، وهو له مطلق الحرية فى ذلك، وعندنا أسماء سينمائية أخرى بدأت بالفعل في ذلك، ومنهم بلقاسم حجاج، الذي يجهز استديوات رقمية متنوعة مختصة، والمسرحي والسينمائي أحمد راشدي، يملك مشروعاً الآن لمدينة سينمائية، والوزارة تهدف إلى وضع السينما في يد مهنيين محترفين.
> ماذا عن جديدك الشعري والروائي، وهل سنرى أعمالك من خلال دور نشر مصرية؟
– نعم، عندي أعمال أدبية قيد النشر؛ وأعمال أخرى ذات طابع فكري ثقافي، أفضل إصدارها عبر دور نشر مصرية، ولكن بحكم منصبي الحالي، فإنني أفضل تأجيل النشر إلى حين.
> كيف رأيت دعوة تجديد الخطاب الثقافي عبر الملتقى الدولي الذي شاركت في فاعلياته في القاهرة أخيراً؟
– نأمل بأن يستعيد المثقف العربي هيبته ويتجاوز خيبته، في ظل تنامي جرائم الإرهاب، لذا كانت الحاجة إلى تغيير مفردات الخطاب الثقافي، ولكن ليس بمعنى تغيير مفردة الإمبريالية بالعولمة مثلاً، ولكن نطالب بتجديد وتغيير الممارسة الثقافية، أو التقدمية بالحداثة وهكذا. المسألة تعني كيف نفكك الذات وكيف ننظر إلى التاريخ والدين واللغة والآخر الذي هو أنا في النهاية. الفشل الذي نحن فيه والعجز يؤكد – باختصار- أننا منذ سقوط الأندلس لم ننجح في بناء أي نهضة، لأننا عجزنا عن فك شيفرة المستقبل، ومن ثم بتنا أسرى الماضي، ونستخدم أدوات بالية، تجعلك تنظر إلى مجتمعك وكأنه ليس مجتمعك، وقد تكفره. إذن على المثقف أن يظهر في مناطق الفراغ ليملأها، وألا يكون عدواً للدولة، والدولة ليست السلطة، لأن السلطة متغيرة دائماً، رئيسٌ يأتي ويذهب، وحكومة تأتي وتذهب، ولكن الدولة ثابتة.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى