المكان يعلو ليسكن في بهاء المعنى

صدر مؤخراً عن دار فضاءات للنشر والتوزيع في عمّان، ديوان “لست الذي كسر الغصن” للشاعر ماهر الأصفر، في 136 صفحة.

وفي هذا الديوان يذهب الأصفر الى كشوفات جديدة في القصيدة، تلك التي يؤخر دوما الإفصاح عنها، حتى يراها في موقده الشعري وقد نضجت.

يشتمل الديوان على ثلاث وعشرين قصيدة، بإيقاعات تراوح بين النثر والتفعيلة؛ إذ تبرز في الديوان محاولات الشاعر في جعل القصيدة الأولى شيئا من أشياء العالم وحدثا خارجيا، يحاوره بقصيدة ثانية تغدو بدورها موضوعا لقصيدة ثالثة.

ففي قصيدته “البصرة”، يذهب الأصفر الى:

الممحوّة

قد نكتفي بالنّهر أحياناً إذا ماءً ونخلا

قد لا نرى في ضفّتيهِ سرائراً عَلِقتْ

واستودعَتْ في الطين أسراراً وأهلا.

تلك إذن بصرة الشاعر الرسام، الذي يستلهم المكان بألوانه وشظاياه وعبقه:

قد لا نرى إلاّ التماعاً في استقامات القصبْ

مُتمنِّعاً مثل الدوائر مُنتهاها مُبتداها

قد لا نرى لون التّعبْ

متوغلاً خلف السّواقي كالسّواقي

ذاهلاً عمّا سوى سعفٍ تكسّر في المياهْ

عمّا سوى أن يذهب البنّيُ أكثرَ في الجذوعْ

أن يبتني قرب البيوت سقيفةً

ومقابراً للجند والزّرّاعِ

مُتّركاً لهذا اللّيفِ إنْ ذهباً وإنْ يسودّْ

خَزانةَ ما سها الحرّاسُ عنهُ.

وكما لو أنه يكتشف في اللوحة مآثر القصيدة وهي تحاول استقراء العالم في مدينة، هي البصرة، بكل ما تحمله من تاريخ، وبكل ما يمكن في طبقات صورتها الراهنة من دلالات، تتناثر في صفحات الكتب، لتحكي عن مدينة، يأتي الأصفر اليوم ليكتب عنها نصه بأخذة المكتشف.

أما في “السماء باسقةٌ وخلفه حالكاتُ الشّجرْ”، نلمح التقنية الصوتية التي يعمل عليها الأصفر، في مقارباته اللفظية والايقاعية “قانصاً كلّ ما شردَ من وعول التنّفسِ

يبسطَ الكاهن أبجديته موحياً للجميع الذي آمنَ

أنّ القرابينَ ما زالت تَشخبُ

أنّ النذورَ بأعناق الطّيرِ معلّقةٌ

وأنّ الحجارةَ الكثيرةً، الحجارةَ التي ملساءُ قانيةٌ،

الحجارة المضمومة باللّيفِ قلائدَ

تتهاوى على وقع صوته في دروب الهواءِ الوسيعة.

وفي “شرفة من الذاكرة”، يقول:

كنّا نُطلُّ لم نرَ السّروَ الذي يعلو ويعلو بيننا

ولم نرَ البنّيَّ والأخضرَ فيهِ

لكننا، لبُرهةٍ.. خِلنا ذراعينا الغصونْ.

إن رؤى الأصفر في ديوانه الجديد، تفصح عن شاعر تواق للحفر في شفيف المعرفة، مستخلصا من الحياة إيقاعاتها وجمالياتها التي يعيد الشاعر تنضيدها وفق فضائه الجمالي والشعري والفكري:

في الينابيع صافيةً

ضاع مني فمي

في المغاليق واهنةً

تركتني يدايْ

في النوافذ شفّافةً

صرتُ أعمى.

 

(ميدل ايست اونلاين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى