سفيتلانا في جحيم «أفغانستان الروسية»

لينا هويان الحسن

«كيف تعود إلى الوطن في طائرة واحدة مع توابيت الزنك، والحقائب الحاوية معاطف فرو الضأن، وسراويل الجينز والملابس الداخلية النسائية، والشاي الصيني؟». كانت الطائرات تعود محملة بالجرحى والقتلى إلى أرض الاتحاد السوفييتي ويتم إنزالهم في أطراف المطار بغية ألا يراهم الشعب.
مامن لعبة أدبية في هذا النص. هناك رواة معرفتهم واسعة، فيكتبون تلك النصوص الموازية للتاريخ، التي توثق لمرحلة غَفِل عنها التأريخ أو تجاهلها لسبب ما. وهناك رواة يلعبون لعبة التوثيق لإيهام القارئ أن كل ما يقرأونه في النص هو حقيقي، لكن قلّة من النصوص التي كتبت الحقيقة بذاتها بلا تعديل أو تجميل أو مواربة. وهذا النص الذي بين أيدينا «فتيان الزنك»، للكاتبة البيلاروسية سفيتلانا أليكسييفيتش الحائزة جائزة نوبل (دار ممدوح عدوان – أبو ظبي، ترجمة عبدالله حبه)، من النصوص المحرِجة بسبب الطابع الفجائعي لواقع تمّ تدوينه بجرأة كبيرة. كاتبة هذا العمل تعرضت للمحاكمة نتيجة نشره، لأن الحقيقة جارحة وغير مرغوب فيها لدى السلطات الروسية التي أرسلت الجنود إلى أفغانستان وتم إنزال قواتهم في كابول وكان التفسير هو :»اعتزم الأميركيون إنزال قواتهم هناك ونحن سبقناهم خلال ساعة واحدة فقط». وبعد ذلك ظهرت معاطف الفرو الأفغانية، وكانت النساء يحسدن من لها زوج في أفغانستان. بينما كُتب في الصحف الروسية: «جنودنا يغرسون هناك الأشجار ويصلحون الجسور والطرق»… كانت جثث القتلى تعود في توابيت الزنك.
يجمع النقاد على أن سفيتلانا أليكسييفيتش أنشأت أو أسست نوعاً أدبياً جديـــــداً قوامه الشهادات التي تحمل أصواتا متعـــددة ولكن لتروي رواية واحدة. من خلال تلك الشهادات التي أدلى بها أشخــــاص مختلفون بلَغ نص سفيتلانا لحظة «الفيض» الأدبية التي تؤكد شيئاً أساسياً في شأن مجمل الأدب وأسباب وجوده: إنه الخلاص الوحيد الذي يغدو متاحاً أمام البشر في لحظات الحزن العظيمة، حيث لا نعثر على ما هو حيّ ونقيّ خارج الكلمة.
في كتابها «فتيان الزنك» توثق سفيتلانا التدخل السوفييتي في أفغانستان ما بين عامي 1979 و1985. جمعت فيه شهادات من خلال مقابلات قامت بها مع جنود عائدين من الحرب، أو مع أمهات وزوجات جنود قتلوا هناك، وأعيدت جثثهم في توابيت مصنوعة من الزنك. كانت نتيجة الحرب آلاف القتلى والمعوّقين والمفقودين، ما دفع سفيتلانا إلى إثارة أسئلة حساسة عن الحرب، من نحن؟ لماذا فعلنا ذلك؟ ولماذا حصل لنا ذلك؟ والأهم، لماذا صدقنا ذلك كله؟
تعرضت سفيتلانا للمحاكمة بسبب نشرها هذا الكتاب، وقد ورد في الكتاب جزء مهم من الوثائق المتعلقة بالحرب. وهي كانت بارعة خلال مقابلاتها مع الأمهات أو الجنود في أخذ – وكشف – ما ترغب في تدوينه، مثل ذلك الجندي العائد إلى وطنه بينما ذاكرته تفيض بجثث القتلى، يقول للكاتبة:» سابقاً كانت شفتاي ترتجفان لدى تلفّظ كلمة «الوطن». أما الآن فأنا إنسان آخر. الكفاح من أجل أي شيء من أجل ماذا أكافح؟ لقد حاربنا وحاربنا، وهذا شيء طبيعي. لكن ربما حاربنا من أجل قضية ما؟ فعندنا لكل جيل حرب خاصة به. تكتب الصحف بأن كل شيء على ما يرام وصحيح، وسيكون صحيحاً. في جانب آخر يبدأون بالكتابة عن أننا قتلة، فمن نصدق لا أعلم. أنا لم أعد أصدق أحداً».
تغوص سفيتلانا أليكسييفيتش في سيكولوجيا العسكريين المحترفين، أولئك الذين لا يهمهم أن تكون الحرب عادلة أو غير عادلة، فحيثما يرسلوا تكن عادلة، وواجبة. الجيش لا يحتمل التفكير الحر. عندما يوضع الشخص في الصف العسكري يعمل فقط طبقاً للأوامر، من الصباح حتى المساء. هناك لا يمكنك أن تُعلّق صورة لتولستوي مثلاً، إنما عليك أن تعلّق صورة «نقولاي غاستيللو»، وهو أول طيار روسي فجّر طائرته بهدف أرضي.
انتبهت سفيتلانا بحسها الأدبي إلى أولئك الذين يعودون من الحرب ليشكلوا نواة لجيل ضائع، بشراً لا لزوم لهم. وأنهت كتابها وهي تؤكد: «ستتواصل الحرب ما دامت تفور في عقولنا الحائرة، إنها نتيجة محتومة فقط لما تراكم في النفوس من حقد وشر».
حازت سفيتلانا على عشرات الجوائز الدولية، ومنها جائزة السلام من معرض فرانكفورت للكتاب 2013، وجائزة نوبل للآداب 2015، التي نالتها عن مجمل أعمالها التي تناولت الحقيقة المؤلمة والتي اضطرت سفيتلانا إلى سماع هتاف الأمهات في المحكمة وهن يشتمن الأب فاسيلي رادوميسلوفسكي الذي جاء يدافع عن الكاتبـــة: «عتمة، شيطان»، اضطررن لفعـــل ذلك خوفاً من فقدان ثلاثمئة روبل تدفع لهنّ كمساعدة عقب استشهاد أبنائهن. فــي كانـــون الأول (ديسمبر) 1993 اختتمت فـــي نهاية المطاف المحاكمة المديدة للكاتبة التي رُفعت عليها قضايا تكذيب شهادات بعض الأمهات، وقد استفادت سفيتلانا من شهاداتهن في كتابها، فبدا لها واضحاً أن الجنرالات يقفون وراء ظهر الأمهات وخلف ظهورهن توجد قبور الأبناء.
«إن الحرب لا تجعل الإنسان أفضل، بل تجعله أسوأ فقط»: هذا حكم قاطع، تخرج به سفيتلانا، التي أرست نوعاً أدبياً طُرحت حوله أسئلة عدة. تلك الأسئلة التي يفترض بالناقد أن يطرحها، سبق أن طرحت في قاعة المحكمة: كيف تحدّد المقاييس التي يجب أن يلتزمها الكاتب في تجنب إيراد النص الحرفي والنص المسجل بصورة ميكانيكية؟ هل يحق لكاتب الرواية الوثائقية أن يغير أسماء أو ألقاب الأبطال؟ هل يتفق كتاب «فتيان الزنك» مع صنف الرواية الوثائقية؟ من يمتلك حقوق المؤلف: هل هو المؤلف أم أبطال الحدث الذين سجلت أقوالهم أثناء جمع المواد؟.
كتاب «فتيان الزنك» مونولوغات الذين شاركوا في حرب أفغانستان، كُتب ليقف ضد جنون العنف والحرب. كاتبته أثبتت فيه كيف أن الإنسان هو القيمة الأساسية في الحياة، وكيف يجري بصورة إجرامية تحويله إلى برغي في ماكينة السياسة ويُستغل بصورة إجرامية مثل كبش فداء في الحروب التي يشنها رجال الدولة الطموحون.
كتب جندي فقد ساقيه قبل أن يحاول الانتحار بلف رقبته بالشرشف وربطه بمقبض النافذة: «علَّقوا على القبور لوحات، وانقشوا على الحجر، أن كل شيء جرى عبثاً وقولوا ذلك للأموات».

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى