‘سيرين الإسرائيلية’ .. عتبات معرفة وخطوط متوازية

محمد عبد الرحيم الخطيب

لكأني بالروائي “حسين أبو السباع” يرفع عقيرته بأعلى الصوت بين جموع العرب، محذِّرًا من ملامح “التطبيع” مع الكيان الصهيوني التي أخذت تدبُّ دبيبها على مهل في المجتمعات العربية كافة دون استثناء، وهو ما أفصحت عنه روايته “سيرين الإسرائيلية” (دار أوراق للنشر- القاهرة).

وفي سياق طرحه هذه القضية، نراه يسلِّط الضوء على فئة فلسطينية منسية أو تكاد، وهي (عرب 48)، محذرًا – من خلال شخصية “سيرين” في الرواية – من أنَّ هذه الفئة قد تكون شوكة في خاصرة الأمة العربية عن طريق تجنيد المحتل لبعض أفرادها من أجل تنفيذ أجندته، ومنها “التطبيع”، من خلال الغواية بالجنس.

وتطرح الرواية أيضًا إشكالية ثنائية الهوية لدى مجتمع (عرب 48)؛ حيث (الفلسطينية) باعتبار الانتماء والتاريخ والدين والعرق، و(الإسرائيلية) باعتبار وثائقهم التي يحملونها. ويغدو الطرح شائكًا في بعض المواطن، ويُلقي من الأسئلة الكثير حول تلك العلاقة التي تربط (عرب 48) بالمحتل، ولو التمسنا الإجابة لدى نموذج “سيرين” لكانت صادمة، وتحمل حكمًا أكثر مما تحمل من حيثيات حكم، غير أنَّ رغبة الكاتب في بث خطورة القضية في نفس قارئه جعلته ينحو هذا المنحى الذي قد يكون صادمًا ومحيرًا لدى البعض.

كما تلفت الرواية النظر إلى تأثير المحتل في اهتزاز العادات والقيم والتقاليد الشرقية لدى بعض “عرب الداخل”، وهو تأثير مفهوم بحكم مجاورتهم لليهود، واتفاقهم معهم في الوثائق الرسمية أمام العالم، فضلاً عن إدارة العرب ظهورهم لهم، فانسلخ – مع مرور الوقت – أفراد منهم عن عروبتهم ودينهم وتقاليدهم الشرقية. وفي هذا السياق لا ينسى الكاتب الإشارة إلى ما يُعانيه قطاع عريض من هذه الفئة المنسية من مضايقات وتعنت من قبل الإسرائيليين، وهو ما يعطي نوعًا من الموازنة.

ويُقدم العمل أيضًا شخصية “حسن” – بطل العمل – باعتباره نموذجًا للشاب الذي يتنازل شيئًا فشيئًا عن مبادئه – من دون أن يشعر – في سبيل علاقة فجائية لا يُبررها منطق، ولا تدعمها عاطفة راسخة، وإنَّما هي نزوة جنسية يُلبسها صاحبها ثوب العلاقة العاطفية.

وكما بدأت العلاقة بين حسن وسيرين بداية إشكالية، فكذلك انتهت العلاقة بينهما، حيث تنتهي الرواية نهاية مفتوحة من خلال الإشارة إلى ذهاب الكاتب المصري “حسن” إلى إسرائيل، للبحث عن ابنته التي أخفت عنه “سيرين” خبرها، وهي ثمرة التطبيع الحرام، وهو ما يومئ إلى أنَّ الرباط الذي يربط العالم العربي بهذه الفئة الفلسطينية المنسية باقٍ لا يقطعه احتلال محتل أو نسيان.

هناك تياران موازيان في عمل الروائي حسين أبو السباع، إذ صوَّر المحتل الحقيقي في الأراضي الفلسطينية، وهو يحاول محو هوية أبناء البلد الأصليين، بوضع العراقيل والمعاناة في طريقهم، بل ويتجاوزهم بتجنيد عميلات لاختراق أنظمة عربية أخرى، في الوقت نفسه، رسم المؤلف الخط الموازي الآخر، وهو مرحلة ما قبل “الربيع العربي”، وما بعده بقليل، من حيث تشابه ظروف المعاناة مع المحتل، أو مع الحاكم الذي يشبه المحتل في تجهيل شعبه، وتجويعه، فتشير الرواية إلى مفهوم الاحتلال، بعيدًا عن النمطية المعتادة، إضافة إلى تصوير بطل الرواية، وهو يعاني الغربة والاغتراب معًا، وكأنَّ هذه الصورة، هي صورة المؤلف نفسه، بما يصوره بدقة، باعتباره معايشًا لكل هذه الملامح، بحكم إقامته شبه الدائمة خارج مصر.

مجمل أحداث الرواية تدور حول الصحفي المصري “حسن” الذي يقع في غرام امرأة تُدعى “سيرين” من فلسطينيي الداخل، تعرَّف عليها عن طريق “فيسبوك”، وتعمل هذه المرأة على نصب شراكها حول “حسن” إلى أن تستحوذ تمامًا على قلبه، ويتماديان في تواصلهما الإلكتروني إلى أن يجمعهما “فِراش” واحد في عمّان لأيام عدة، تطلب خلالها منه مساعدتها في ولوج الوسط الفني المصري باعتبارها “ممثلة فلسطينية”.

ويشار في هذا السياق إلى بعض الملامح البارزة للتشكيل الفني في الرواية، وأهم ملمح من هذه الملامح “العتبات”، وقد تعددت أنماط “العتبات” على النحو التالي:

– عتبات تُحيل ذهن القارئ إلى مشاهد الفصل الأول، وتذكره به، ويؤدي هذا النمط من العتبات فائدة “الارتباط”، فمشاهد الفصل الأول التي مكانها ساحة البعث والنشور تظل حاكمة لما يليها من أحداث. وتختلف عتبات هذا النمط من حيث الطول والقصر، فقد تأتي في فقرة، وقد تأتي في كلمتين.

– وهناك نمط آخر من العتبات الخاصة بكل فصل، ووظيفتها التمهيد الذهني لأحداث الفصل المُصدَّر بها. ومنها: “لكل سفر رحلة، ولكل رحلة معاناتها، بدءًا من النية، حتى محطة الوصول” (الفصل 22).

– وهناك فصول تجمع بين النوعين السابقين من العتبات؛ العتبات الرابطة، والعتبات التمهيدية المستقلة.

– وهناك نمط مستقل من العتبات، ويأتي قبل الأنماط السابقة، وتكون العتبة من هذا النوع وحيدة في صفحة خاصة بها، وغالبًا ما تكون “الحكمة الفلسفية” هي الفائدة من وراء هذا النوع من العتبات. ومنها: “المرايا المتجاورة تعكس الصورة الخارجية فقط، لكنها لا تعكس ما وراءها، وقبل أن تعكسها تمتصها تمامًا أو كأنها تمضغها” (الفصل 12).

ومن أهم ملامح التشكيل الفني أيضًا “أسلوب المحادثات الإلكترونية “الشات”، فلقد بُني معظم الحوار في هذا العمل على أسلوب المحادثة الإلكترونية “الشات” الذي غصَّت به الرواية، وهذا راجع إلى أنَّ العلاقة التي جمعت بين “حسن” و”سيرين” كانت في معظمها إلكترونية عن طريق الفيسبوك ورسائل SMS.

ومنها كذلك تقنية “اليوميات”، وهذا واضح في أيام الرحلة الأردنية التي جمعت “حسن” و”سيرين” في غرفة واحدة، وقد أورد الكاتب أحداث كل يوم من أيام هذه الرحلة في فصل مستقل مُصَدَّرًا بتاريخ اليوم.

(ميدل ايست اونلان)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى