أخاف يا أمّي أن أنام فأرى

خاص ( الجسرة )

  • إبراهيم جابر إبراهيم

كلمَّا فتحتُ عينيَّ حين أصحو .. أروحُ أصفِّقُ : لقد أهدتني الحياةُ يوماً جديداً كاملاً، وأتمتمُ باحتفال : الحياةُ جميلةٌ وتستحقُ العناق !

أنهضُ مستعجلاً لقطف الندى عن النافذة ، وأنا أردّدُ ما قال ” مالك بن الريب ” وهو يضعُ رأسه في حِجر أمِّه بين حربين : ” أخاف يا أمّي أن أنام . فأرى ما يحدثُ داخل رأسي ” .
لذلك أمرُّ عن مرايا البيت خَطفاً .
..
في النوم أكون هشَّاً . وضعيفاً . وتقوى علَيَّ أسئلتي الكثيرة عن الصواب وأسئلتي عن الخطأ .

في احتدام النهار ببعضِهِ تقوى علَيَّ الحياة .
..
أخاف يا أمّي أن أنام . فأرى .
. .

أكثر من خمسين سنة من المشي الخطأ، بالساق الخطأ، في الطريق الخطأ!
وإرسال رسائل الى المرأة الخطأ، في العنوان الخطأ.
كومةٌ من الأخطاء في خانة الاسم، وتاريخ الولادة، وجيوب القميص.
في الهوى، والبيوت، وكأس الشاي، والكتابة، ومقاعد الطائرات، وفي اختيار نوع الخبز لوجبة الإفطار.
سفرٌ كثيرٌ، أيضاً، بالحافلات الخطأ، من الـ “هناك” إلى الـ”هناك”،..فلم يكن لييوماً:”هنا” !
لا أحمل من أثاث عائلتي غير حكايات خسرانها، ولا أتذكر من احتفالاتها غير الجنازات، فلم ينادني أبي يوماً ليقول لي: هذا اسمك الحرّ .. احمله وحلّق به، طر إلى ما شئت!
كان اسمي لخمسين عاماً مخبأ تحت الوسادة، خوفاً من هراوة الشرطي، وسخط الملاك القابع فوق الكتف اليسرى، وأعين الجيران، وحسد الخالات، ونقمة أحدٍ ما.. لا يروقه اسم جدي أو لون عين جداتي!
أكثر من خمسين سنة من الحرب الخطأ، والانتصار في المعركة الخطأ، ودفن موتانا في المقبرة الخطأ، والهتاف للبطل الخطأ!
. . .

يتلفتُ الفتى خلفه: ما الذي تفعله وأنت فتى طريّ العود بكل هذه الأخطاء؟!
خمسون سنة من الضلالة العاطفية، ومن رسائل بريدية لا تصل، ومن ضياع الحاجيات في التباس العناوين،..ومن الركض بالساق الخطأ حاملاً فكرتي الخطأ على الظهر الخطأ!
خمسون سنة وأنا أنحت أصناماً من تمرٍ غير صالحٍ للأكل!
..

كنتُ أحبُ أخطائي، وإذ أخلو بهنّ أحتضنهن بحنوّ كأنهن شقيقاتي الصغيرات!
للخطأ مذاقٌ لذيذٌ، ولاذعٌ، تحت اللسان، مثل حُبيبات السُمّاق، ويترك رعشةً شهيةً على باطن القدمين.. حين نُقدم رِجلاً ونؤخر أخرى!

وأخطائي التي رتبتها في خزانتي خمسين سنة، هي لي تشبه النياشين والأوسمة؛ لامعةٌ، وبرّاقة، و..أستحقّها!
..

من أنا بلا أخطائي؟ … ولدٌ أحمقٌ يهجس برضا مدير المخفر وإمام الجامع وحارسين عظيمين عملاقين يتربصان وجثتي ما تزال ساخنة أن يسألاني: لماذا خمشت التفاحة بأسنانك القاسية؟!
. .

أنا لستُ مثلكم ابن حكمةٍ

أنا انجبتني أخطائي !

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى