يا طير الحزين ع الشجر

خاص ( الجسرة )

• جمال القيسي

رفة أولى لجفن القلب..
مع تغاريد عصافير الصباح رحلت آمي. لم تخلف توقيت ساعة رحيل شقيقة الروح بسمة، وقطعة القلب محمد، ومهجة الروح المهيب أبو فهد. والدي. عائلة اختارت الرحيل مع بياض الصبح كأرواحها. لكن رحيلك أوجع من رحيلهم كلهم.
في الليلة السابقة لغيابها الذي سيظل يجرح قلبي، ويوجع كبدي قالت عيناها لي: غدا صباحا انا يا حبيبي غدا صباحا مسافرة، ف.”لا تهلك اسى وتجلد”. لكني قضيت الليل شرفة وجع . ابكي وارجو االشجر والبشر:”قولوا لعين الشمس ما تحماشي لأحسن حبيب القلب يصابح ماشي” لكن الشمس لم ترد، واطلت شمس يوم ليس مثله أي يوم، وتركتني ومشت الحبيبة.. سافرت…راحت الحنونة! وتهدم الجدار الذي كان يسند روحي.
حملت العصافير الملونة الفاتنة روحها وحلقت بعيدا نحو زرقة البحر الشاسع مثل قلبها. عانقت العصافير النوارس بفرح رجوع حمامة بيضاء لأسراب النقاء والراحة السماوية.
هنيئا لكما يا شقيقي. هنيئا لشقيقاتي. الآن يمكنكم التخلي عن حسدي بأني كنت الأحب والأقرب لها وصاحب الحظ الأوفر من حنانها. واليوم آن لي..آ
ن لآخر العنقود أن يعرف رغم أنف قلبه أنه لم يعد كذلك. يا لغربة آخر العنقود حين يرحل صوت من كانت تدلله بهاتين الكلمتين اللتين لم تكونا شيئا غير عادي إلا حين لم يعد لآخر العنقود من أحد.
ويا لقلب الصغير اليتيم حقا وحقيقة ولجفنه رفة ثانية وعاشرة.

رفّة ثانية لجفن القلب:
ها هو اليوم الخامس والثلاثون لرحيلك. بلى يا أمي. هاجني استعبار وعويل موجع كثير، ولكني لم أزر قبركِ، والحبيب يزار.
تعرفين أني أضعف من هذا اللقاء. ولن أقول اعذريني. فأنتِ التي كانت عذرتِني على كل شيء طيلة حياتي، وستظل تعذرني.
هنيئا للأحبة الذين يزورونك ويزرعون شجيرات الوفاء ظلا لروحك الجميلة. هنيئا لهم هذه الشجاعة.
سأحدثك عن ما جرى..عن بعض ما جرى.. دعيني أحكي لك عن مرارة تأبى أن تفارق حلقي وعينين صارتا جمرة وقلب صار دموعا حارة. اسمعيني يمه:
صباح رحيلك كنتُ في الحديقة الصغيرة العابقة بذكرياتنا معك.. من تلك الحديقة في ذاك الصباح، كان يتناهى لسمع قلبي نواح شقيقاتي الطيبات. تعلمين كم يقطع قلبي البكاء، تعرفين.. فكيف إذا كان بكاء نساء هن شقيقاتي يبكين غيابك الأبدي. كنت أتعذب يمة أوجع من أي عذاب مرّ بي!
بقيت وحيدا في ظل شجرة لا يراني فيها أحد.. ثم تركت مقعدي وجلست على التراب، وأخذت منه حفنة بيدي وأهلتها على رأسي، ولطمت بها مرارا وجهي.. ثم صرت، بعينين من جمر وتراب، أحدق بوحشة مرّة، في شجرات التين الشامخة، ودالية العنب الممتدة ظلا طويلا وحبا..وسرحت في هيبة شجيرات الزيتون، وحضنت عيوني ياسمينة قرب شرفة ضمتنا أربعين عاما، أعني الياسمينة التي غرستها يداكِ لنا، فرأيت الأشجار، لأول مرة، بلا بهجة ولا لون.. صارت أشجارا حزينة. فجرحتني كلمات تلك الأغنية.. من أين انبثق ذاك اللحن، وهذي الكلمات بعد طول سنين: (يا طير الحزين ع الشجر.. أهلك الحلوين والشجر.. والعنب والتين يا حزين ولّفهم تشرين ع السفر..يا طير الوحيد لابقى تسأل عن العذاب والشقى..من ليالي والنقا..ما بقى غير لون الحجر..ع السفر وليفي غفي..بكر قبل نزول الندي قلي بروح وبرجع غدي..لا اجى ولا ودى خبر..يا هوى اللي كان لي دوا تركتني ع مهب الهوا..قلي كيف جمعتن سوا حنية والقلب الحجر..والعنب والتين يا حزين).
وقلبي..قلبي الذي صار جمرة توجع صدري، آنذاك كان يشكر شقيقاتي الوفيات في الحب على سمو نحيبهن الأليم. كان عويلا يشق عنان السماء.
اسمعيني يمه. حين اقتربت من النائحات حول جثمانك المسجى، ووجهك الذي اتشح بحياد وبراءة مثيرة للوجع، أكبرت في شقيقاتي إخلاصهن في تلويحة الوداع.. غير أني كنت أتمنى لو لطمن خدودن، وشققن أثوابهن؛ فعلى مثل أمي فلتنح النائحات بحرقة اللوعة، ونار الفراق.
استلقيت على سريرك في الغرفة الملاصقة مقطعا بنحيب الحبيبات.
ومن على سريرك في تلك الدقائق، أيقنت أني صرت بلا أحد..بلا سند ولا ظهر، وشعرت أني وحيد، فوق ما أحتمل، تأكدت أنه لم يعد لي في الدنيا أحد. أحسست أني في صحراء بلقع، والناس خيالات، ومحض سراب.
أوَ لا تعذرين عجزي عن زيارتك..أنت من تعذرني حتى حين لا يكون لدي أي عذر.
يا لشقاء عمر الرجل، ولجفن القلب رفّات ورفّات!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى