«تخرّج» للروماني كريستيان مونجيو.. تواريخ صغيرة

زياد الخزاعي

جملة «بعض الخطوات المهمّة في الحياة، تعتمد على أمور صغيرة» التي يقولها الأب «روميو» لابنته «أليزا»، المتشكّكة في إمكانية اجتيازها اختباراً مدرسياً حاسماً، يهيئها للالتحاق بجامعة بريطانية «حيث ستُطاردك السناجب في كنغستن غاردنز»، حسب تهكمه الساعي الى انتزاع أبتسامتها الملائكية وتعزيز ثقتها، هي مستند درامي انقلابي لحكاية مألوفة في الشريط الخامس للروماني كريستيان مونجيو «تخرّج» (بكالوريا). علاقة حرجة بين ربّ عائلة مُكرَه على الإذعان لتنازلات وعواقبها، ومراهقة ترى أن «حرائق كيانه» على مستقبلها يعرقل اتخاذها القرار الأصوب بنفسها. البطل، طبيب محلي يقترب من الخمسين، لم تنصفه الحياة. محاط بوفرة من فاسدين إداريين ومرائين. يرصد مونجيو، ببلاغة سينمائية معهودة، لعبة أخلاقية خاسرة في مجتمع انتقاليّ تخلّص للتوّ من دولة توتاليتارية وحِدّتها، قبل أن يقع في براثن رأسمالية متوحِّشة وشَرهة ومتغطرسة.
لن يتبقى أمام «روميو» (أدريان تيتيني)، العائش ضمن وسط اجتماعي مزدحم برداءات بشرية، سوى التحصّن بوعد حيويّ لابنته (ماريا دراغوش المشهورة بدورها في فيلم «الشريط الأبيض» (2009 لمايكل هانيكه)، باعتباره خلاصاً جماعياً، تتجلّى فيه الصبية هَيْبَة اجتماعية لتفوّق عائلي. فنكوصه كأب غير وارد مطلقاً ضمن حسابات عناده في تحقيق مأمن لهما، ومواجهة عالم مشحون بالتنافس والمكر وغدرهما. حَسَب مونجيو خطوات بطله بصلافة سينمائية، وبمشهديات مباشرة ولاذعة هي امتداد لأسلوبيته المجيدة في «4 أشهر، 3 أسابيع ويومان» (سعفة «كان» 2007). فالخارج (الواقعي) من حوله عدوانيّ، معرقل لنيّاته، مفسِد لتطامناته. ذات صباح، يرمي كائن غامض نافذة العائلة بحجارة، ويحطم اللوح الأمامي لسيارته، ويختفي. لا يحطم هذا الفعل الشرس زجاجهما وحسب، بل سينثر كمًّا معتبراً من خروقات غامضة، ويثير شكوكاً مطمورة في بيئة أنانية، مثلما رسم المخرج هانيكه لؤم ذلك المحيط الدموي في نصّه «مخفٍ» (2005)، وتحوّل شريط الفيديو «المراقِب ذو التهديد المضمر» ليوميات عائلة الإعلامي جورج لوريان، نصلاً يستدعي دماء ذكرى نفور وعنصرية. «روميو» ليس وحيداً، هناك عشيقة وأم شابة لا تريد استمرار علاقتهما المحرمة. فما فائدة عيشهما كلصوص وخونة وزناة. تقودها ظنونها الى أن الريب وعسسها لا بد ان تفضحهما يوما ما، وتصفي حسابات فجور. هل قذف الحجارة علامة إنذار لفاجعة محتومة؟
خيط قدري
لا تحتكم هِدايات مونجيو السينمائية الى صدف وغيبيات، بل الى خيط قدري ملزم بعنفه ولا شفقته، يقوّض توازنات أبطاله، ويزعزع مثالية صورهم الاجتماعية، ويعاقب يقينياتهم. إن المقايضة الخسيسة التي يطالب عبرها الطبيب الغريب بمضاجعة بطلة «4 أشهر…» ثمناً مسبقاً لإتمام عملية إجهاض صديقتها، لا تُطرح كمفاجأة بل اتهام صريح وحاسم لانحطاط ضمائر، وهو ما يتفجر بدراما عالية الجودة في عمله اللاحق «خلف التلال» (2012)، مع اكتشاف بطلته الراهبة الشابة مأزق ذمّتها في المشاركة بـ «تصفية» صديقة عمرها العائدة من منفاها الألماني، والساعية الى «إنقاذها» من حياة استعباد في دير ناء. في حالة «روميو»، تهتزّ مملكته العائلية وأركانها ومبادئها مع تعرّض صبيته الى محاولة اغتصاب فاشلة، قبل يوم من امتحانها العصيب. يكبر السؤال/ المعضلة حول المعتدين الغرباء ودوافعهم وشركائهم. أهم مكلفون بمحاسبة آثامه الجنسية؟ أهو الحسد من موقعه، وانتسابه الى علية قوم يسيّرون شؤون عبادهم برشى وسطوات وثارات؟ أي جهة تستفيد من سقوطه، وتستفزه للكشف عن أسرار تحصد رؤوساً فوق الشبهات؟ يضع مونجيو مشاهده في قلب سؤال ثنائي يساجل، من دون حرج، منظومة قيادة وأعراف مجتمع متحوّل، متخذاً من قضية التعليم بوابة اتهامية واسعة لنتانات أناس تهافتوا على اغتنام فرص بأساليب خسيسة. بمعنى، أن أمراً «صغيراً» في خريطة تنظيم سلطويّ قمين في استدعاء مصائب تنال من قيادات وبطشها وتنكيلها، تمثلّت في فيلم مونجيو (مواليد 1986) برئيس شرطة محلية، ومسؤول لجنة امتحانات، ومدير إداري فاسد في شركة نفط، وسياسي سيئ السمعة. ما حكاية تعرّض «أليزا» الى الاعتداء الآثم، وهوس والدها في الحصول على شريط كاميرا مراقبة مغلقة لفك لغز المعتدي ومَنْ خلفه، سوى قمة برج ملعون مشيد من مؤامرات وتهديدات وابتزازات، يتعاظم بنيانه بقوّة عصابات، وتداخل مصالحها وعنفها مع عقليات استحواذية، وسلوكيات نهب أموال وانتهاك أعراض. إن دلالات مشهد «تخرّج» الصبية، في ختام الشريط، هو مصالحة فرد مع مستقبله، وتملّصه المحظوظ من عفونة مجتمعية لا أمل في إبادتها.
تاريخ صغير
بنى صاحب «غرب» (2002) مَقاصد عمله، الحائز «جائزة الإخراج في الدورة 69» لمهرجان «كان» السينمائي، مناصفة مع الفرنسي أولفييه أساياس عن «متسوّقة خصوصية»، على يوميات بطله، التي نعتها صاحب «الأسلحة السّرية» الروائي الأرجنتيني خوليو كورتاثار بـ «التاريخ الصغير»، وصاغها مونجيو كأمثولة هجائية ضمن إطار سينمائي واقعي، صوره تيودور فلاديمير باندورو بألوان حيادية ومن دون بريق مفتعل، حول السؤال الأخلاقي والمعتقدات والسرائر والنزاهات. لن يشكك مونجيو بتضحيات «روميو». فهو، في نهاية المطاف، رجل سعى الى حقه الأبوي، وتأمين خيار أفضل لابنته، مدفوعاً بخوف عظيم من اختراقات شيخوخة كئيبة ومحسومة. مشكلته الكبرى أنه أعزل، من دون تضامن آخرين من حوله، اثر انهيار زواجه. لذا، فإن ما يقوله لصبيته حول خطتهما بشأن «غربتها البريطانية»: «هل تظنين أن الأمر سيكون سهلاً علينا؟ هذه الحياة وناموسها. الأبناء يتركون بيوت ذويهم كي يعيشوا بمفردهم»، هو إقرار بأن تاريخه الصغير وعالمه سيتوقفان لحظة مغادرتها. إن انتظار عودتها سيكون له أشبه بانتحار. وما «تخرّجها» سوى إعلان لميتته المؤجلة.

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى