من حرب إلى حرب

عباس بيضون

لا نستطيع اليوم أن نتكلم بثقة عن أمة. لم يكن الأمر كذلك في النصف الثاني من القرن العشرين. كان لنا يومها الشعور بأننا بالتأكيد أمة واحدة وأننا تفرّقنا بسبب سياسات استعمارية اجتهدت لكي لا تقوم لنا قائمة. فقوم لهم تاريخنا ولهم عصبيتنا لا يُؤمَن لهم. ولا بد أن يخرجوا في يوم من رقدتهم وسباتهم إلى الدنيا الواسعة، عندئذ سيناديهم تاريخهم الوضيء وماضيهم المفعم إلى أن ينهضوا. وإذا تم لهم ذلك فسيؤدي العالم ثمن انتباذهم وعزلهم وستتغير الخرائط وتتبدل القوى. إذ ذاك لن يقدر العالم على خذلانهم ثانية ولن يستطيع أن يصفّدهم مجدداً. لقد صحت مخاوفه وتوجساته وها هم العرب يمتشقون عزهم ويقظتهم ويعودون إلى حيث كانوا أمة وقوة وموقعاً.
لا نستطيع اليوم أن نتكلم بثقة عن أمة. ما قدرناه لأنفسنا غير الذي قدّر لنا. لم يبق شيء من حلم الوحدة أو حلم العودة أو حلم الدولة أو حلم الأمة. كلها كانت أضغاثاً وخابت ولا داعي لرواية ما جرى فهو معلوم مشهور. انهارت أول وحدة ولم نعد لغيرها. عدا العالم والجيران على بلادنا فقضموا أطرافها وأسسوا في وسطها دولة غريبة.
مع ذلك عاودنا الحلم وعاودنا الاعتداد وحسبنا أننا بمقدراتنا ودولنا وشعوبنا وقومنا قادرون على أن نمحو الوصمة وأن نستعيد المجد. كانت تلك سكرة عارمة ولم نصح منها ولا نريد أن نصحو.
في النصف الثاني من القرن العشرين، كنا أمة واحدة حول المذياع وفي الساحات، وكنا أمة واحدة خلف القائد أو القادة، وكنا هكذا عصباً واحداً وعزيمة واحدة. وبالتأكيد كنا هكذا في الشارع وكنا هكذا في الميدان. كنا عند أنفسنا جيشاً مرصوصاً وشعوباً مرصوصة ودولاً مرصوصة، كنا نفكر بأن الحرب ستكون امتحاننا، ولا بد أن نحارب ولا بد أن تكون الموقعة وأن يحكم الميدان، وأن تخرج الأمة المرصوصة حشداً واحداً إلى المعركة.
لطالما كانت الحرب هدفنا ومستقبلنا. الحرب وحدها، الحرب ولا شيء غيرها، الحرب وليس الكلام، الحرب وليس الحرية ولا الفرد ولا الثقافة ولا المجتمع. الحرب وحدها تفصل وتحسم. وحدها تعيدنا كباراً وتعيدنا أعزّة وتعيدنا ممجدين. الحرب ولا بديل منها، ونحن بالطبع فرسانها وشجعانها كما كنا في الماضي وكما سنكون في المستقبل.
لم نفكر بأن الحرب مؤسسة أيضاً والحرب نظام والحرب مجتمع ودولة. كانت بالنسبة لنا غزوة فحسب وحملة فحسب وفتحاً فحسب. حرب العُصَب والأسلاف والحمولات والبوادي. كان شعرنا سيوفاً ودماء تقطر وارتجازاً ونشيداً، وكان القائد يخطب ويهدد ويرتجز أيضاً. فكرتنا عن الحرب لم تتبدل، رغم الهزيمة الأولى كنا نحن الشجعان وكانوا هم الفرارين. رغم الهزيمة كنا الأبطال وكانوا كلاباً عاوية، وها جاءت الساعة ليهربوا أمامنا ولنحمل عليهم ولنغزوهم في مواقعهم.
كانت الهزيمة الثانية وهذه المرة كان أمامنا شيء يشبه الانتحار، كانت فروسية الهزيمة وبطولة الخسارة ومرثية الشهداء، وتأنيب العالم الغادر ولوم الذات، لكن مجدداً كنا نحن الفرسان.
الحرب، هي وحدها المفتاح. الحرب التي خسرناها أمة وخسرناها شعوباً وخسرناها بلاداً وخسرناها أوطاناً. انقلبت علينا. كان لا بد من حروب ليبقى لنا ماء وجوهنا، الحرب التي خسرناها مراراً نقلناها إلى الداخل. أيا كان الاسم، تداعى الشعب وتداعى المجتمع وتداعت الدولة وتداعت الهويات وبالطبع كانت الأمة قد استحالت أقداماً. بالطبع كان على كل خط اختلاف وتمايز عصبية ونعرة وخندق. وراء كل جماعة عصبية ووراء كل جماعة نعرة ووراء كل عصبة انقسام. وهكذا، الذين لم يقدروا على أن يحاربوا كأمة ولم يقدروا على أن يحاربوا كشعوب وكدول وكمجتمعات، يمكنهم أن يرتدوا إلى الغزو، وأن يرتدوا إلى الحروب القبلية، وأن يرتدوا إلى بداوة وإلى عصبيات وعصائب. لم يسبق ذلك مقدمات، فجأة تقريباً، وبدون تمهيد فاضح، بدأت المجتمعات تتفسخ وبدأت تمايزاتها واختلافاتها تتحول إلى خنادق وإلى متاريس وإلى سلاح.
يمكن أن نسأل أين كان كل ذلك. لم تكن الأمة إلا تظاهرة كبيرة وعصبية غطت على العصبيات. كان الشعب شعوباً منذ البداية. كانت النهضة مجرد خطب، خطب فحسب، إعلاءً لعصبيات وتمويهاً لعصبيات. الآن هي الحرب الأهلية وريثة الحرب القومية. الآن نعرف أي حرب انتظرناها وإلى ماذا انقلبت وإلى أين انتقلت وتحولت. كانت غزوة منذ البداية وتغدو غزوة، الأسماء تتغير والحرب هي نفسها.

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى