الجنون كمساحة للفرح والامتلاك والخيال

سليم البيك

خلال مهرجان كان الفرنسي، يتم التركيز إعلامياً على الأفلام المشاركة في المهرجان، داخل المسابقة الرسمية وخارجها، لكن هنالك مجموعة أخرى من الأفلام تُعرض في فعاليّة مستقلّة وموازية للمهرجان، هي «أسبوعا المخرجين»، وأفلام هذه لا تقل أهمّية عن تلك المشاركة في المهرجان.
خلال الدورة الأخيرة لمهرجان كان شاركت عدّة أفلام بدأت بعدها تدخل مرحلة العروض التجارية، من بينها فيلم «حمقاوات فرَحاً» للمخرج الإيطالي باولو فيردزي.
وإن لم يكن الفيلم بالأهميّة المذكورة أعلاه، إلا أن فيه ما يميّزه، وهي أنّه يحكي عن امرأتين، عن واحدة منهما تحديداً اسمها باتريسيا، ليستا مجنونتيْن إنّما تقيمان في مركز لمعالجتهما نفسياً، وفيه نساء أخريات يعانين من اضطراب عقلي، ليستا مجنونتيْن كما يمكن أن يدل مكانهما، إنّما كما يشير عنوان الفيلم، أي الجنون فرحاً. وهما ليستا كذلك مقيمتيْن في المصحّ إلا في الربع ساعة الأولى من الفيلم، حيث تجدان طريقة للهروب ليصير الفيلم أقرب لتصويرٍ لحظات الحرية التي تعيشانها، تمارسان الفرح إلى حد الجنون.
حالة الجنون الفرِحـــة هـــذه تسيطر على الفيلم، كون الكاميرا تـــلاحق الامرأتيْن أينما توجّهــــتا، من المصح بدايةً إلى الطريق والأمكنة التي وصلتاها ومحاولتهما الدائمة للهروب والإفلات من المسؤولين في المصحّة في بحثهم عنهما.
هذ الاضطراب العقلي لدى الهاربتيْن كان أساس الكوميديا في الفيلم، العفويّة في سلوك وحديث الشخصية الرئيسية فيه تحديداً، باتريسيا (الفرنسية الإيطالية فاليريا برونتي تيدسكي)، بخلاف الشخصية المأساوية للأخرى، دوناتيلا، لسبب سنعرفه لاحقاً، يتعلّق بكونها أما وبعلاقتها بابنها.
باتريسيا، ثرثارة وعفويّة وحيويّة وبورجوازية، وتتصرّف كالملكة في المكان الذي توجد فيه، داخل المركز وخارجه. تتخيّل، أو تكذب، كثيراً، وتتصرّف على هذا الأساس. نراها في البداية تمشي محدّثة الجميع ومتحرّشة بهن تمازحهن، من النزيلات إلى الإدارة والأطباء.
تصل دوناتيلا إلى المركز، نزيلة جديدة وشابة وجميلة، تتقرّب منها باتريسيا بحشريّتها العاديّة، تدّعي بأنها طبيبة وتحاول فحصها، تبدأ باتريسيا بالاعتناء بها ومرافقتها. لاحقاً في رحلة للعمل في الحقل يتأخّر الباص الذي سيقلّ النزيلات إلى المركز فتمشي باتريسيا وتأخذ معها دوناتيلا وتركضان قليلاً إلى أن تصلا إلى باص عمومي، تركبان وتبدآن رحلة مرح وحرّية في الطريق وفي المدينة المجاورة. هناك، تتشاجران وتتصالحان، تذهب كل منهما لرؤية من كان شريكها قبل دخولهما إلى المركز، زوج باتريسيا في بيته، حيث كان يقيم حفلة غداء، ومدير دوناتيلا في النادي الليلي الذي يديره، وحيث عملت هي كراقصة وأقامت علاقة معه. وكان الرّجلان في الحالتيْن مع نساء أخريات مستفيدين من غياب الامرأتين في المركز الصّحي.
ليست فكرة الجنون مرتبطة بالحريّة فحسب هنا، بل كذلك بالامتلاك وبالخيال، وليس الكذب. الحريّة لأنّ باتريسيا تحديداً استطاعت في الرحلة القصيرة الممتدة ليوميْن خارج المركز، أن تفعل ما رغبت مراراً به، بما في ذلك سرقة السيارة من رجل أراد اصطحابهما إلى فندق. وبالامتلاك لأنّ باتريسيا كذلك عاشت على هواها، كذلك داخل المركز وخارجه، وكان كل ما حولهما ملكاً لهما، تدخلان إلى مطعم في فندق فخم وتتناولان العشاء. باتريسيا تحكي كلمتيْن مع المدير ثمّ تقوم وتسحب دوناتيلا من يدها وتخرجان راكضتيْن كطفلتيْن. وبالخيال وليس الكذب لأن باتريسيا تعيش فعلاً ما تحكيه، وإن لم يكن صحيحاً، كأن تقول للأخريات إن الفيلا في توسكاني الإيطالية التي تحوّلت لمركز صحّي كانت لعائلتها، من دون أن نعرف إن كان ذلك صحيحاً أم لا، لكن سلوك باتريسيا يقوم على صحّة كلامها.
يمكن أن يكون الفيلمُ فيلمَ- طريق، من تلك التي تجري أحداثها على الطّرق، حيث يبدأ الفيلم بمكان وينتهي بمكان آخر مصوّراً الطريق بين المكانيْن. هنا ليس الطريق فيزيائياً وممتدا بين نقطتين فحسب، بل هو نفسي ودائري ينتهي في النقطة ذاتها التي بدأ عندها، فنرى الامرأتيْن أخيراً في المصحّ بعد رحلة الحرية التي قامتا بها. والطريق النفسي هنا يتعلّق بخروجهما من المركز، بفرحهما وحريّتهما التي عاشتاها ليوميْن، قبل اكتمال الطريق الدائري وعودتهما إلى مكانهما العادي.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى