قوارير القصة القصيرة جدا

د.مسلك ميمون

قبل أن تكون شيرين طلعت قاصة، كانت قارئة نهمة، ومطلعة شغوفة بالقراءة، وهذه ميزة المثقف، وخاصية كلّ مبدع في مجال الأدب.

لهذا حين عمدت إلى كتابة القصّة، والقصة القصيرة جداً بالتّحديد، كانت على بينة من ضروب السّرد وحيثياته وسماته وطرائقه. لهذا صدّرت مجموعتها بالتّالي: «القصّة القصيرة جدًا جنسُ أدبيّ دقيق جدًا، فهو كما يعطيك الدّهشة في القفلة ملتزم بالتكثيف والسّرد واللّغة الشّعرية والصّور، فإذا أعطاك النّص عدّة تآويل فقد نجح في مهمته المؤلف.»

إذن، ليس من السّهل أن تغامر في فن مستحدث، بَعدُ لم يكتسب رواده بكثرة في مصر، دون أن تكون لها دراية بذلك، ساعدتها على التّأليف بعزم واطمئنان رغم وعيها التّام بما للرواية من قصب سبقٍ في كلّ ما يُكتب من سرديات، وما للقصّة القصيرة جداً من غرابة، وتخوّف لأنّها مازالت جنسا سرديا، تلفّه هيبة وتوجس، وإقدام وإحجام. ولم يقبل به ويغامر إلا ثلّة قليلة، ما فتئت تشق طريقها الصّعب بجهد ومعاناة، ولكنّها تكبر وتتعدد.

لهذا حين أقدمت القاصّة شيريـن طلعـت على كتابة القصّة القصيرة جداً، واعتـزمت أن تمضي قدماً في كتابتها. وجدت من بعض النقاد الذين ألفوا القصة القصيرة، والرواية، والقصيدة، من راجعها في قرارها، إلا أنّ هدفها كان أولا أن تسهم في النشر والتّعريف بهذا الجنس المستحدث، وثانيا لأنّها كتبت عدّة نصوص، فاكتسبت رصيداً وتجربة. عزّ عليها التّخلي عنها. فمن أجل هذا كانت مجموعة ” قوارير”.

والعنوان “قوارير” كناية عن النساء استلهاماً من الحديث الشريف: {رفقا بالقوارير} وقد أجابت عن ذلك القاصّة نفسها حين سُئلت في حوار حول المجموعة:

ــ ما دلالة عنوان كتابك “قوارير”؟

ــ الإحساس في تعاملك مع القصص، بالإضافةِ لقصصٍ نِسائية فيه.

“قوارير”، صدرت عن دار ليليت للنّشر والتّوزيع، وتعدّ أوّل مجموعة للمؤلفة، بعد مجموعة كتب جماعية، منها: “ألم الإشتياق”، و”فلاش باك”، “ماريونت”. وتحتوي المجموعة على أكثر من 150 قصة متنوعة بين رومانسية، واجتماعية، وسياسية.

فماذا عن قصص المجموعة؟ إنّها نصوص قصصية قصيرة جداً، حبلى بقضايا المعيش اليومي، الذي يخصّ في الاعتبار العام المرأة ، كفاعلة اجتماعية، وأسّ مهم من أسس الأسرة. نحاول أن نبين بنيتها الفنية من خلال الخصائص التالية:

1 ــ اللّغة العاطفية: المجموعة حافلة بنصوص وجدانية، رومانسية نشيجية، والموضوع يتطلب لغة ملائمة، تخدم الفكرة وتؤطرها، وتقدمها في نسقٍ متجانس، كما هو الشّأن في النّصوص التالية: (فصول، صولو، نظرات، جرح ناطق، سوء نية، إنفصال، صيد، أمومة، مكابرة، أشعار..).

ففي نص فصول، ترجمة فنّية للعلاقة التي تبوء بالفشل، فهي أقرب ما تكون لفصول السّنة على اختلافها، وتباينها.

“التقيا في الرّبيع، تفتحتْ براعمُ حبِّهما. أتي الصيفُ زَادَ من حرارة غرامهما، حلَّ الشتاءُ انهمرت دموعُها، وسقطت الأوراقُ في الخريف.”

نص تؤسسه أفعال أربعة: [تفتحت، زاد، انهمرت، سقطت] يقابلها أسماء أربعة [ربيع، صيف، شتاء، خريف] وتهيمن اللّغة العاطفية على النّص: [التقيا في الربيع، تفتحتْ براعمُ حبِّهما. أتي الصّيفُ زَادَ من حرارة غرامهما..] كما تتجلى روح المأساة العاطفية كأي صدمة بالغة، تفت عرى العلاقة التي بُنيت على أساسٍ من الآمال، والأحلام الجميلة: [حلّ الشتاء انهمرت دموعها، وسقطت الأوراقُ في الخريف] وليس بعدَ السّقوط إلا الخيبة والانتهاء.

2 ــ التّضاد الوجداني: في إطار اللّغة العاطفية، كثير من نصوص المجموعة جاءت دلاليا في نسق من التّضاد الوجداني، كخطاب اجتماعي ونفسي، أنّ العلاقات وإن بدأت بإعجاب ومـودة، فإنَّ العِشرة ودوامها منوطة بالتّكافوء الوجداني، والعقلي، والنّفسي إلى حدٍّ ما. فكلّما اختلَّت كثيراً هذه الخصائص، لا يُجدي إعجاب البداية شيئاً يستحق الذكر، فسرعان ما يدبّ الخلاف، وتنشأ الأزمات، وتتغير الرّؤية ويُصبح ما كان مثار السّعد والألفة والاطمئنان، سبب الخلاف والشّنآن.. كالذي نجده في نص “جرح ناطق”:

“قام بطرق الباب، سمع صوتا يشبه صوتها يخبره بالذهاب، اتصل بها يسألها عمّن بالبيت، أخبرته بأنّها وحدها، قال: إنّ أخرى تشبه صوتك قالت لي: ارحل.

قالت: لست أنا من تكلم إنّما جرحي.”

عنصر التضاد الوجداني القائم بين البطلين يُجسده المقطع التالي:

قال: إنّ أخرى تشبه صوتك قالت لي: ارحل.

قالت: لست أنا من تكلم إنما جرحي.

بدون تفاصيل، ولا إسهاب ولا حشو، ولا فائض لغوي، نشعر أنّ العلاقة فقدت طعمها، وأنّ الخلاف تعمّق نتيجة التّضاد الوجداني، وأصبح أكثر عمقا، حين أمسى الأول لا يشعر بما يشعر به الثاني. وهذا إحساس يتكرر بفنية قصصية في نصوص منها: (سوء نية، انفصال، صيد، أمومة، مكابرة، أشعار، مشهور، صدى الجرائم، أوزار..).

3 ــ تقنية الكتابة: لعلّ أبلغ ما يشد المتلقي في القصة القصيرة جداً صياغتها ونسقية تركيبها. فالحجم الصّغير، كلّ ما فيه يتطلب الدّقة، وحسن الاختيار اللّفظي، وبلاغة التّركيب. والقاصة شيرين طلعت واعية بهذا كما أسلفنا آنفا. وتظهر ملامح تقنية الكتابة في نصوص المجموعة لكلّ متأمّلٍ حريص على الفعل القصصي وتركيبه:

أ ــ البداية بالأزمة: وفي ذلك نصوص كثيرة، وهي طريقة متداولة في القصة القصيرة والرّواية أيضاً، ومنها في هذه المجموعة: [أوزار، صورة، حرية، بين فكيـن، أحجية…] وعامل المتعـة القرائية في مثل هذه النّصوص، أنّ المتلقي يُصدم بالحدث وقد وقع، ومن ذات نفسه يهتمُّ بالدّواعي التي على إثرها تشكّلت الأزمة، فيكون ذلك محفزاً على القراءة بشوق، ولهفة، وفضول، وتحرٍّ إلى أن ينتهي إلى نتيجة.

ب ــ السّبب والنّتيجة: وهي تقنية متداولة، وقد تكون من أقدم تقنيات القص، في اتباعها البناء التّراتبي الذي له بداية ونهاية، سبب ونتيجة، ولكن الجديد عند القاصة شيرين طلعت أنّها تُجيد إعداد القفلة، فكلّ التّرتبات / الأسباب، التي توهم المتلقي بشيء ما، تجعله يشعر بالدّهشة والصّدمة، لأنَّ السّابق لم يأت باللاحق المنتظر في الذّهن وإن كان في حدِّ ذاته يشكّل نتيجة. وهذا ما يعرف بالقصة الصّدمة، وفي هذا مجموعة من النّصوص التي تنحو هذا المنحى.

ج ــ التخيلية: وهي هنا وليدة الحذف والإضمار، أشياء كثيرة تبدو للمتلقي محذوفة، دلّ عليها السّياق العام، وأشياء كثبرة، سكت عنها السّارد، لكن المكون العام للنّص يوحي بها الشيء الذي يفتح المجال خصباً للتّخييل وبالتّالي للتّأويل، وتلك من فنية القص القصير جداً. لنتأمــل ذلك في النّص السّياسي “لأجل الوطن” ص/44:

“أصابته طعنةٌ من أخٍ له، اتّجه ناحيةَ البحر ليُخفيَ أثارَها، طَفت جثتُه!”

فعلى المتلقي أن يتخيل أبعاد النص التي تعود به إلى محنة اللاجئين، وكيف فرّوا بأنفسهم من الظلم السّياسي، والقتل الهمجي، والإهانة والحصار والجوع. يلتمسون النّجاة خلف أمواج البحر، فلا هم نجوا، ولا أحلامهم تحققت، وكأنّي بهم: فروا من الموت إلى الموت.

د ــ نظام التّرميز: ويأخذ طابعاً لغويا أحيانا، وأحيانا أخرى يأتي نتيجة ضروب بلاغية كالكنابة والاستعارة. ما يفيد أنّ القاصة ــ ربّما لم تعمد إليه قصداً ــ ولكنّه جاء نتيجة عوامل أخرى ترتبت عن السّياق. ونظام التّرميز، الذي انتهجته القاصة شيرين طلعت في بعض نصوص المجموعة فبحكم تركيبه، لم يأت بالعمق الذي هو مألوف في الرّمز الأسطوري أو التراثي أو التّاريخي.

ولكن رغم ذلك فسح المجال للتّأويل، والقراءة. كما هو في [أنثى متمردة، ملكية، خدعة، التيار، انفصال، زير نساء، رجل ..]

هـ ــ المفارقة: قد تكون المفارقة على تباينها، وتنوعها أساس بناء هذا الجنس السّردي، وإن كانت لا تخصّه دون غيره من الأجناس الأدبية، فإنّنا نجدها في الشّعر أيضاً، ولكنّها وكما يقول توماس مان: “هي ذرّة الملح التي تجعل الطبق شهياً”. وأهمها: المفارقة اللفظية، ومفارقة الموقف، وهي تعني الاختلاف والتباين، والتعارض والتناقض الشديد، على مستوى النص القصصي. ودورها الأساس لفت الانتباه بطريقة ذكية وفنية لما ترمي إليه فكرة النّص، بعيداً عن التّقريرية الساذجة، وتلميحـاً لجادة الصّواب، في الأفكار، والمبادئ، والأخلاق، والسّلوكات الفردية، والجماعية.

وفي مجموعة “قوارير” اعتمدت النّصوص أسلـوب المفارقـة. ففي نص “مِلكيـة” ص 48 وهو مــن نصوص المجموعة القصيرة والقصيرة جداً، هذه المفارقة السّاخرة اللّفظية:

” سألها: هل تكتبينَ الشّعرَ؟ قالت: لا، ولكن لي قصائدُ با سمي.”

فكيف لا تكتب الشّعر؟ وكيف تكون لها قصائد باسمها؟

المهم هنا، ليس هو السّؤال في حدِّ ذاته، ولكن ما يوحي به طرحه، وما يفيده من حيرة وتعجب. وإدراك للمسكوت عنه.

وكذلك في نص “التيار” ص50 مفارقة موقفية:

“قرّر الخروج، تمرّد عليهم، دهسته أفكارُهم، تعافى، سخروا منه، وحاولوا قتله، التقى بظله وأقنعه أنّ أفكاره بمأمنٍ داخل الصّندوق.”

الأفكار والمبادئ، والقيم للتّطبيق والتّنفيذ، فلا هي كانت ولا كان صاحبها إن لم يكن لهـا وجود فعلي. فما بالك إن كانت مع صاحبها جثة هامدة في صنـــدوق؟!

في غير هذا تبقى مجموعة” قوارير” نابضة فنيا بأساليب مختلفــة أهمّها: الحذف والإضمار، وهذا شائع في كلّ النّصوص، ما أضفى عليها سمة من الاختزال والتّكثيف، وميلا للتّلميح والإشارة. مع اعتماد القفلة المفاجئة والصّادمة التي كثيراً لا تخطر على ذهن المتلقي، وكأنّ السّياق أعدّ بطريقة مخادعة، ولكن السرّ في ذلك وكما رأينا يعود لاعتماد القاصّة شيرين طلعت على توظيف المفارقة المناسبة، والحرص عليها.

وهكذا تكون القاصة شيرين طلعت قد أبانت من خلال هذه المجموعة عن وعي بالكتابة القصصية القصيرة جداً. فكتبت وأبدعت. وتجنّبت الكثير من عثرات وهفوات البداية، التي قد يقع فيها كثير من القاصين والقاصات. وأعطت للنص القصير جداً نكهة رومانسية، واجتماعية، وسياسية، كدليل على أنّ هذا الجنس الضّئيل الحجم، والقصير جداً، قادر أن يستوعب مضامين كبرى، أفكارا عميقة أخرى.

(ميدل ايست اونلاين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى