نوري الجراح.. حديث عن الثورة والمنفى والشعر

 

على هامش صدور قصيدته (ديوانه) “قارب إلى ليسبوس”، أدلى الشاعر السوري نوري الجرح بتصريحات للجزيرة نت تطرق فيها لدور الشعر في التعبير عن زلزال الثورة السورية ومآسيها وعن صدى ذلك في كتاباته.
يؤمن الجراح -وهو من مواليد دمشق 1956، ويقيم في لندن منذ نحو ثلاثين عاما- بأن الشعر يبقى، عبر الأزمنة، صوت الضحية الصارخ في برية العالم لأن الوجدان البشري المكلوم لم يجد لغة أعلى من لغة الشعر لتسجيل المواجع الكبرى.
في يلي مقتطفات مما جاء في تلك التصريحات:
تراجيديا الموت
ليس ثمة ما هو أكثر تراجيدية من الموت غرقا في بحر بلا قرار بينما أنت تحاول النجاة من الموت على اليابسة، وقد أفلت للتو من يد القاتل. إن كل أساطير العالم القديم لتقف عاجزة أمام صور الموت البحري للسوريين الهاربين من جحيم الاستبداد، وقد أمسوا شهداء العالم الحديث على مفترق القارات.

لكن الشعر أبداً يبقى، عبر الأزمنة، صوت الضحية الصارخ في برية العالم.
كيف يمكن لشاعر أن يستعيد قصيدته ليتحدث عنها وهو الذي خرج من أتون كتابتها كما خرجت هي من جحيم التجربة التي وقفت وراءها وكانت باعثا عليها؟
على هذه الحال وهذا الشعور، أعود لأقف على قصيدتي “قارب إلى ليسبوس”. أشعر باستحالة أن يتكلم شاعر عن قصيدة له تنهض بملحميتها على أصوات كل ما تحمله إلى أسماعنا هو ضجة الأسى الجماعي وعصف الآلام الكبرى في تغريبة شعب.
تواريخ العالم القديم حفلت بصور لا تنتهي للعذابات البشرية، سجل مرعب للمصائر الجماعية. حدث هذا في العراق ومصر واليونان وبلاد الشام. وإن صور الفجائع التي تخللت الثورات والحروب وأعقبتها لتكاد أن تطبع تاريخ البشر بأسره من أقدم الأزمنة. لكن الوجدان البشري المكلوم لم يجد لغة أعلى من لغة الشعر لتسجيل تلك المواجع الكبرى، ومواجهة الفناء ومنازلته، ومن ثم خوض معركة البقاء وهزيمة الألم..

جدوى الشعر
ماذا يمكن للشعر أن يفعل بإزاء وقائع تعجز القواميس عن وصف أهوالها؟ ولكن ماذا يمكن لغير الشعر أن يفعل في وصف ما لا يوصف؟ ماذا يمكن للروح الإنسانية المصدومة بالأهوال أن تفعل بآلامها من دون سطر شعري يهزم ببلاغته المضادة بلاغة الجريمة ولسانها الشيطاني، ويمجد الحياة في وجه وحش الموت؟
على هذه الخلفية الفادحة من الوقائع المهولة المقرونة بالقلق الوجودي كتبت شعري منذ خمس سنوات، أنا ساكن المنفى وقد طاله زلزال الثورة العظيمة في منفاه وشقق من تحت قدميه ثلاثة عقود من أرض المنفى، وناداه إلى ذرى جديدة يطل منها على عالم جديد، فكان أن أحيت الثورة على الطغيان الأمل في روحي من بعد يأس، وفجرت في لغتي مكبوتاتها وآلامها، وجعلت لتلك المكبوتات والآلام صوراً وكلمات فصارت لها هيئة وكيان منظوران.
الثورة والشعر
ثلاثون عاما وأنا أمضي على طريق الرعد بحثا عن أصل العاصفة. لطالما كان شعري ثورة على اللغة القديمة، وعلى التقاليد البالية، وعلى المصطلحات الآسرة التي أرادت أن تحتجز صورة الشعر العربي الحديث في إطار واحد. وكذلك ثورة على حداثة بطرياركية واهمة وموهمة.
إنما الشعر نهر خيالات جامحة، فهل يمكن للنهر أن يؤسر في فكرة، أو يمكن للخيال أن يتحول إلى صنم؟ الثورة والشعر توأمان عاشقان يتقاسمان أرض المغامرة وسماء للمخيلة..
رحلة البحث عن الحرية امتدت من دمشق إلى بيروت إلى قبرص فلندن حيث أنا اليوم، وحيث لم أبرح أنادي في شعري العاصفة، تارة بهمس العاشق وأخرى بنزق الغاضب، وها أنا اليوم في قلب تلك العاصفة ومصيري الشخصي لم يعد شخصياً.
انتفاضة الناس وأهوال الاستبداد، التي صبت جحيمها على شعب تدافع أجمل أبنائه وأطعموا نار الحرية أجسادهم بكرم وبسالة أسطوريين، وضعتني، مرة واحدة، أمام تحديات كبرى، أولها كيف أواجه لغتي التي بها أكتب شعري، كيف أعاركها لأكتب ما لم أكتب من قبل؟
لطالما تقلبت بخياراتي اللغوية والجمالية، لكن التحدي هذه المرة كان مختلفا، كيف يكتب شاعر قصيدته في لحظة البركان؟ أي لغة تلك التي يمكنها أن تصهر تجربة شاعر في لحظة كاسرة لشعب راح يكتب وجوده بقطرة الدم. شعب لم يعد لديه لغة أخرى يكتب بها تاريخه سوى لغة الدم؟ هل يمكن للشاعر أن يكافئ الدم بقصيدة تليق بكرامة الشعر؟

(الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى