«شيطان النّيون» نقدٌ جمالي وقاسٍ لعالم الموضة في لوس أنجليس

سليم البيك

في فيلمه الأخير الذي نافس على السعفة الذهبية في مهرجان كان قبل أسابيع، يكرّس المخرج الدنماركي نيكولاس ويندينغ ريفن أسلوباً كان قد ميّزه في الفيلم ما قبل الأخير، المنافس في مهرجان كان كذلك قبل ثلاثة أعوام، «الله فقط من يسامح» وذلك من ناحيتيْن، إضاءة النّيون الملوّنة والأمكنة المعتمة أولاً، والعنف المفرط ثانياً.
إن كان العنف مباشراً في فيلمه السابق، جسدياً ومن خلال أساليب التعذيب والقتال، فالعنف هنا، في فيلمه الأخير، يستمر نفسياً على طول الفيلم إلى أن تدخل السُّرياليّة في بعض مَشاهده في مرحلته الأخيرة، حيث يتجسّد العنف النّفسي ويصير صوراً تُدخل الخيال والمجاز إلى الواقع، منها مشهد تتقيّأ فيه فتاة عينَ أخرى، تبصقها مع دمائها على الأرض قائلة بأنّها تريد إخراج الفتاة من نفسها.
الفتاة التي أُكلت عينها، لسنا أكيدين إن كان ذلك واقعاً أم خيالاً، هي جيس (إيل فانينغ) التي وصلت إلى لوس أنجلس لتدخل عالم الموضـــة، أتت من بلدة صغيرة، ساذجة وضعيفة وبريئة ويتيمة ولم تقم علاقة مع شاب مسبقاً.
إثر وصولها تعلّمت أولاً أن تكذب، كخطوة أولى في مشوارها في هذا العالم الذي ينقله مخرج الفيلم وكاتبه، ريفن، كعالم يبدأ بالكذب وينتهي بالجريمة، ويمرّ بكل ما بينهما.
من البداية تلقى جيس ترحيباً من الوكالات، تصعد بسرعة قياسيّة لصغر عمرها وجمالها الذي أسر الجميع، وكذلك لطبيعيّة هذا الجمال، وهو ما ندر وجوده بين العارضات الأخريات اللاتي خضعن لعدّة عمليات تجميل ليصلن إلى مقاسات معيّنة، إلا أنّهن يخسرن بذلك سحرهن كما يرى أحد المصمّمين في إحدى وكالات الأزياء.
سذاجة جيس التي فضّلتها الوكالة على أخريات أقدم منها في المهنة، جعلتها تطمئنّ إلى امرأة تعتني بمكياج العارضات، وبصديقتيْها وهما عارضتان، فاستدرج الثلاث جيس إلى بيت ليتخلّصوا منها، غيرة وحقداً. هنا يبدأ العنف النّفسي الذي مارسنه عليها بالتّحول إلى جسدي، وتبدأ الدّماء تملأ المَشاهد بعدما كانت تملؤه أضواء النّيون والبريق الذي يخرج من عينيْها ومن حولهما. ويسترجع ريفن في سريالية مَشاهده الأخيرة الفيلم السّريالي القصير الأّول للإسباني لويس بانويل «كلبٌ إسباني» (1929)، في مثلّث برؤوس هي: العنف أو السّكين، والعين كعضو عصبي حساس في الجسم، والسياق السريالي الذي يجمع بينهما.
الألوان الفاقعة والمضيئة في الفيلم، ألوان النيون، مجاورةً للأجواء المعتمة في معظمه، هذا التباين بين العتمة والإضاءة الملوّنة يشير إلى التباين بين جيس وما يمكن أن تمثّله، وبين الأخريات المصنوعات من خلال عمليات تجميل والنّاجحات من خلال ممارسة الجنس والمنتهيات أخيراً إلى مَشاهد إجراميــّة، واحدة منهنّ تمارس الجنس مع جثّة.
والفيلم بقدر ما كان سريالياً في تصوير نهايته إلا أنّها أكثر واقعيّة مما يمكن أن نتوقّعه من أفلام أخرى أميَل إلى نهايات هوليوودية، والفيلم وإن كان مكانُ أحداثه وشخصياته في لوس أنجلس إلا أنّه لمؤلّفه (كاتبه ومخرجه) الدنماركي وبإنتاج عدّة شركات عالميّة.
وبالحديث عن التّباين، كان لا بد أن يباين المخرج في الجمال بين جيس والأخريات، فلأولئك عيون كبيرة بشكل زائد، أجساد نحيلة بشكل زائد كذلك، زوايا حادة لوجوههن ومناظر مريعة بدون مكياج، في وقت حافظت فيه جيس على جمالها وبراءته بدون مكياج، وأبهرت الجميع بمكياجها وتسريحتها وفستانها في السّهرات والعروض، لكنّ المخرج أفردَ لجيس مَشاهد كانت في معظمها ضمن جلسات التّصوير، مُمرّراً الكاميرا عليها بشكل أقرب للدعائي الإبداعي والفنّي، بألوان زاهية عليها وحولها وخلفها، ما كان خروجاً عن النّص، إن أمكن القول، للدخول في لقطات مُكرّسة لإبراز جمالها ولترسيخ الجانب البصري للفيلم، وهي مساحة الأسلوب التي يرغب بها ريفن.
وجمال جيس هنا لم يُرَد له إلا أن يكون النّقيض التّام من العالم الكاذب والقاسي لبزنس الموضة، مستخدماً له ريفن الألوان المضيئة لإبرازه، في الفيلم كما في ملصقات الفيلم البديعة.
ينقل «The Neon Demon» عالمَ الموضة إلى سينما فنّية، ينقل العنف النفسي والعنف السريالي إلى فيلم فنّي تعلق جمالياته البصريّة في الذّهن، كما نقل فيلم ريفن السابق « الله فقط من يسامح» عوالم الانتقام والجريمة والتعذيب إلى فيلم فنّي في سياق جمالي يعلق كذلك في الذّهن، وإن استمرّ المخرج في الأسلوب ذاته، وقد مهّدت إليه بعض أفلام سابقة له، في أفلام لاحقة يمكن أن يصنع لنفسه خطاً فنّياً خاصاً، أكثر ما تميّزه كلمتان: الدّماء والنّيون.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى