«ما لوت» لبرونو دومون… خبايا الهدايات

زياد الخزاعي

منذ باكورته «حياة يسوع» (1997)، والجريمة وسَقْطَاتها ثيمة مركزية في اشتغالات الفرنسي برونو دومون (مواليد 1958). رؤاه السينمائية مثقلة بأوزار شخصية وظنون وغلاظات وهوان حداثي. إن مجتمعه الأوروبي الوارث لمآثم الدّم العنصريّ، المبرر بيافطات تاريخية وصيغ كهنوتية، يعيد أخطاءه مراراً من دون خزيّ أو مَخافَة أو استغفار. سينما دومون معنيّة باستفزاز ما هو إيماني، تشكّك به و «تلعن» طهاراته، وتفضح أخطاءه. يرى أنهم قادرون على تلّبس معاصيهم بيسر مدهش. لن يترددوا في زهق أرواح وتصفية براءات. يتفاخرون بتعصّبهم كمؤشر على بطش منظم. يضع دومون الطبيعة التي يصوّرها عادة في مناطق قرب مسقط رأسه، بفورتها اليومية وجغرافيتها، كياناً ديناميكياً يشهد على بغيهم، من دون أن يخترق أقدارهم أو يتدخل في مساراتها.
دَرَس دومون الفلسفة، فأصبحت سينماه علمانية وتحريضية ومشاكسة، موغلة في أخلاقيّة اتّهامية، تعتبر ان العدالة علّة معقّدة، وان توفير الإنصاف اليوم مرهون لإنظمة مستبدّة، تحرّض طبقاتها الشعبية على التزمّت، وسنّ قوانينها ذاتياً. هكذا، يقرر اليافع «فريدي» وعُصْبَته العاطلة عن العمل في الفيلم الأول، وهم نموذج لبَطَر غربي، قتل الفتى العربي «قادر» لإغوائه عشيقته الشابة «مريم»، ونجاحه بمواقعتها. تصبح جثة امرأة مغدورة في نصّه الثاني «الإنسانية» (1999) عنواناً لإثم فادح يخترق ضمير محقق شاب مستوحد وخائب. فيما يصاب بطل «29 نخلة» (2003) بمسّ إثر اغتصابه من قبل عصابة ذكور أميركيين، فيعدم عشيقته الروسية، قبل ان تكتشف الشرطة جثته في صحراء لوس أنجيليس.
يرى دومون إن الفهم القاصر للقداسات يبرر جحود أفرادها، ويعميهم عن هدايات ذاتية، معنية بتآلفهم ضد مظالم، ورفضهم الرضوخ للانتقام أو التحريض عليه. ففي «فلاندرز» (2006) و «هاديوتش» (2009)، تصبح الحرب (في الأول) سعيراً أرضياً يصفي جنوداً فرنسيين تطوعوا لقتال «وحوش» شرق أوسطيين. بينما شكلّت، في الثاني، ورطة راهبة شابة بنقل قنبلة لتفجير إرهابي، إثر علاقتها بشاب مسلم، حجة سينمائية مموّهة حول «الهداية» وإشكالاتها، والتحذير من فاشية دينية، كرر دومون تحاملاته عليها لاحقا في «خارج الشيطان»(2011)، بأسلوب عبثي فاتن، عبر شخصية شاب متشرد صَمُوت يمارس طهرانيات غريبة، أقرب الى الهرطقة. قاضى عبرها خطاة، وعتق صبية من مسّ شيطاني غامض، وحرّر هيجاناً إيروتيكياً لامرأة مكلومة عابرة، وقاضى رجلاً بديناً على جرائمه الجنسية!.
الفكاهة
منذ العام 2014، ومع إنجازه فيلمه التلفزيوني «كانكان الصغير»(200 د)، أدهش دومون الجميع بخطوة مذهلة نحو الفكاهة. مزيحاً فيها سوداويته وصداميته، محققاً تهكّماً بارعاً ضمن 4 مقاطع، لم يغب فيها هوسه بتأطير جرائم كمؤشر على لا توازن مجتمعيّ. وهو ما بقي أميناً له في جديده «ما لوت» (122 د)، من عروض مسابقة الدورة 69 لمهرجان «كانّ» السينمائي. تشهد قرية ساحلية اختفاء سياح بلا قرائن. لا بحرها ابتلعهم ولا رملها دفنهم. وكما اعتبر أحدهم في «كانكان» البلدة مكاناً: «مسكوناً بالشياطين»، يصبح الشكّ ديدن إثنين من المحققين. هما على قدر سافر من البلاهة، لكنهما امتلكا حظوظ ملائكة. ذلك، أن طوياتهما وبراءتهما حولتهما من أزلام سلطة الى دميتين سينمائيتين مرسومتين بأزياء العام 1910 وأكسسواراته، ومحكومتين بسلوكيات طبقيته وتراتباتها. تُحاط هاتان الشخصيتان الكارتونيتان الباهرتان، القريبتا الشبه بشخصيتي «لوريل وهاردي»، (أعترف دومون بتأثره بإداءات الكوميدي ماكس ليندر وتحاملاته على البرجوازية الأميركية خلال تصوراته الأولى لهما، في حواره مع مجلة «فيلم كومينت»، 16 أيار 2016)، بتصرفات ارستقراطيي تلك الحقبة حيث تبدو حماقات أفرادها مظاهر لتمدين تهريجي ونزق. فالأب الأحدب «أندريه»، جسده الممثل فابريس لوكيني على طريقة جاك تاتي، يرى عائلته قطيعاً يتوجب رعيهم في فردوس بريّ، صوره غيوم ديفونتين بروح دافئة وألوان صيفية برّاقة. يراقب حبورهم وأمانهم من شرفة قصره ذي الطراز الفرعوني، إشارة الى ولع باستعارة أمجاد أمبراطوريات بائدة. فيما تكون زوجته «إيزابيل» الفاقدة لتوازنها (فاليريا بروني تديسكي)، وشقيقته «أودي» الرعناء (جولييت بينوش)، وقريب العائلة «راف» المتهافت، نماذج حيّة للأنانية والتملّق والعَجْرَفة والسلوك الأخْرَق.إنهم طبقة محظوظة بالرخاء، لكنهم كائنات ناقصة الكرامات. تستمرئ الجمال، مع أن قُبْحها فاضح.
عمى الحقيقة
لا يتسلى دومون مع مشاهده بشكوك الجرائم. فما ان يُقدّم الشاب «ما لوت» (براندون لا فيفيل) ووالده الصياد البحري، وهما يؤجران قوتهما البدنية لحمل زوار، والعبور بهم بين ضفتيّ ممرات مائية، تُعرض بقية «عائلة آل بيرفور» كوحوش رذيلة، تؤمن طعامها بتقطيع جثث وافدين أغنياء والتهام أطرافها!. هؤلاء هم قطيع الجهة الأخرى من عالم مقسّم. رعويون ومعزولون وهائمون. من بينهم يكون «ما لوت» الوحيد الذي يقرع الحُبّ وجدانه مع إبنة الذوات «كريستين» المهووسة باللباس الرجولي، وهو تناقض كرنفاليّ صارخ بين أبناء منزلتين اجتماعيتين يجب أن لا يلتقيا. بيد ان هذا الغرام الواقع بين ولاء الشاب في «تأمين اللقمة» لإهله، ونداءات عشق تتكلل بإنقاذه حبيبته من موعد موتها في بحر هائج، يصبح مفتاح السِرّ للـ «كشف» عن قاتل معروف، إلا إن عمى الحقيقة ابتلى الجميع.
تصبح هذه الشقية قريناً درامياً للصبي «كانكان» الذي وعى بعد انتحار اليافع المسلم (في مقطع «الله أكبر») ان القاتل ليس بالضرورة شخصاً ما، وإنما سلوك نُستَحثّ على إرتكابه من دون وازع حاسم. وسع برونو دومون من اتّهاماته لـ «مسرحه الفرنسي المؤفلم»، والمصمم بروحية أساليب رسامي «مدرسة أنتويرب» الباروكية الفلمنكية، أمثال «روبن» و «أنتوني فون ديك» و «ياكوب يوردانز» وغيرهم، ليشير الى أن طبقيّة هذه الجمهورية متصدّعة، وثرواتها موزّعة بلا عدالة، ومساواتها بين الجنسين مشكوك فيها.

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى