«الطواريد»… والفانتازيا غير المكلفة

فجر يعقوب

يختار مسلسل «الطواريد» (إنتاج تلفزيون أبوظبي) البادية لينطلق منها في سرد الأحداث وبناء الشخصيات عبر المعالجة الفانتازية الآنية إن جاز التعبير، التي تقوم على توليف الأفعال بما يتناسب مع اللحظة الأشد تكثيفاً فيها، ويعطي لها مساحات درامية لا تنفصل عن رد الفعل الآني الذي يميزها. ومن الواضح أن المسلسل يجد له مرجعيات تلفزيونية كثيرة لمحاكاتها وتقمص أحداثها وبعض «الكاركتيرات» التي تكرست في السنوات الأخيرة بوصفها من مفرزات الحداثة التي تغزو هذه البيئة، وتشكل في الوقت ذاته إحدى أدوات السمر والتسلية التي يبحث عنها الطواريد في أمسياتهم الرتيبة، وتدفع بالزعيم «طرود» (عبد الهادي الصباغ) ليرفضها خوفاً على حياة العشيرة الهادئة الآمنة، من أن تفسدها الحضارة الحديثة من دون أن يمتلك الحكمة والرأي السديد في ذلك. إذ يكفي أن نعلم أن ابنته الحسناء «وضحة» (نسرين طافش) قد تلقت تعليماً جيداً، وهي ملمة بقوانين هذه الحضارة ومعطياتها، وقد عادت للعيش في كنف العشيرة بانتظار الفارس الذي يمكنه أن يقهرها ليكسب قلبها، فهي مجالدة قوية ومبارزة شجاعة، وتحولت في الوقت ذاته إلى مستشارة أبيها الزعيم في أحايين كثيرة.
إكساء الأحداث في المسلسل بهذه الطريقة إنما يجيء ليسد نقصاً في توليدها ويوقع شخوصه في شر التفاصيل الكثيرة التي ستتناوبه. فلا يعود مهماً هذا التضارب والتناقض بينها، حتى وهي تنمو عن طريق السرد الفانتازي، فقد يظهر جليس الزعيم ونائبه غير ملم بأبسط عادات العشيرة، ما يدفع به (لعب دوره تيسير إدريس) لإطلاق تعليقات تكشف عن هذا الغرق. فمثلاً هو لا يعرف شيئاً عن عادات استقبال الضيف في البادية، ويبدي تبرماً في غير موقعه، بل أنه قد يدافع عن «دوغما» الزعيم في موقع، وينتقد الحياة التي يعيشونها في موقع آخر، من دون تبرير هذا التناقض في جوهر شخصيته. قد يشفع توليد الأحداث بهذه الطريقة لصانعي العمل للتبرؤ في بعض المواقع من ميزات التدقيق فيها بغية اكتشاف مرجعياتها في السرد، لكن انتشار بعض هذه التفاصيل في جسم العمل قد يقلل من مشروعية الفانتازيا وجديتها، فمن غير المعقول مثلاً أن يدرك «مهاوش» و«خلف» (محمد حداقي وأحمد الأحمد) إذ تنطلق منهما القصة بمجملها، أساساً، مفردات كثيرة باللغة الإنكليزية وأن يظهرا إلماماً واضحاً فيها من دون أن يميزا صوت الهاتف النقال في الحقيبة التي ينساها السياح عند «مسعود» (قاسم ملحو) في مضارب العشيرة من صوت المنبه الذي يملك الزعيم «طرود» مثله.
قد يبدو السرد الدرامي في العمل مبرراً إلى حد ما، فمن الواضح أن البناء يحتمل مثل هذا «النفخ»، بل أن وصف الفانتازيا يكاد يكون أقرب إليه من كل المسلسلات العربية التي ظهرت يوماً تحت مسمى الفانتازيا، ولكن شر التفاصيل يكاد يكون هدّاما في أمكنة كثيرة، حين يريد القائمون على العمل أن يقولوا كل شيء دفعة واحدة عن طريق مراكمة الأفعال المتسارعة والمتسرعة في القصة، والبحث فيها عن كل ما يبعث على الضحك، وهي لا شك مهمة صعبة للغاية، لأن صناعة الكوميديا عن طريق النقر على التناقضات في الفعل قد لا تكفي دائماً.
كثيرة هي الأحداث التي لا تبدو مؤثرة في بنية العمل. بعضها يمكن التقليل منه، وبعضها الآخر يمكن إسقاطه، وبعضها يقوم على المبالغة في الأداء، إذ تبدو المعالجة الدرامية للعمل متكلفة جداً، ولا يراد هنا ظلم مواهب كثيرة ظهرت فيه. ففي زمن تلفزيوني درامي مكثف يمكن قول أشياء كثيرة مع «الطواريد» وعن حياتهم الغرائبية التي أريد لها أن تكون كذلك بغية قول أشياء كثيرة، وإسقاط ما يراد إسقاطه على حياة البادية من دون أن تترهل الأحداث، وتصبح عديمة الجدوى في أمكنة كثيرة. بل أن ضجر بعض أفراد العشيرة من الحياة التي يعيشونها، والسقوط في فخ منتجات الحضارة الحديثة وإعادة إنتاجها معوجة عن طريق صناعة «الفارس» يعيد الجميع إلى المقلب الأول، الذي يتم فيه التساؤل عن أهمية هذه المحاكاة الهزلية في قراءة هذه المنتجات، والمناداة بالحفاظ على أصالة البادية بوصفها من القيم والتراث كما يجيء في رسالة عزل «أبو شهاب» (أيمن رضا) من قبل الحكومة بعد أن يتعدى على حياة وأمن وطمأنينة الطواريد، طالما أن كل ما يحدث على شاشة التلفزيون لا يتعدى الفانتازيا التي تحتمل قراءات وتوجيهات كثيرة. وبعضها ينال من هذه القيم، حتى يبدو الــسرد الدرامي فيها مثقلاً بإجابات يمكن اكتشافها بسهولة لأنها تجيء في تراتبــية واضـــحة لا ترحمها الأزياء والأفعال الغريبة التي يقوم بها أهل العشيرة التي تعاني من غزو حضاري استهلاكي مكلف لا يدفع إلى التغيير في نماذج العقول، لأن الطواريد محصنون بالفانتازيا غير المكلفة، ولا يدور الحديث هنا عن موازنة العمل الكبيرة بالتأكيد.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى