«3000 ليلة» لمي المصري… سينما الموقف لا البروباغاندا

علي زراقط

«٣٠٠٠ ليلة» لمي المصري، ليس فيلماً نمطياً عن الصراع العربي الاسرائيلي، أو عن النضال الفلسطيني. هو حكاية تمرّ بمحاذاة الحياة المعلقة لمجموعة من النساء المسجونات معاً، يحدث أن إحداهن حامل، كما يحدث أن السجينات فلسطينيات، والسجن «إسرائيلياً». هذا ما أرادته المخرجة والكاتبة من الفيلم. لم ترد أن تبالغ في الصراع، ربما خوفاً من الانزلاق إلى «البروباغاندا». لذلك قررت أن تضيف مجموعة من السجينات الإسرائيليات، اللواتي يمارسن عنصرية تجاه زميلاتهن الفلسطينيات إلا أن إحداهن (شولاميت) تعدّل عن عنصريتها بعد أن تنقذها ليال بطلة الفيلم.
ليال بطلة الفيلم، ليست بطلة. لم تقاتل العدو قبل الدخول إلى السجن، ليست امرأة خارقة الشجاعة. هي امرأة اقترفت ذنب الحياة العادية، ساعدت فتىً لا تعرفه فتمّ اعتقالها وسجنها. يتخلّى عنها زوجها (بطريقة غير مفهومة) فتجد نفسها وحدها تواجه السجانة هافا (شخصية السجانة السادية مؤداة بطريقة كاريكاتورية من عبير زيبق حداد)، زائيفا المجرمة المدمنة (ختام ادلبي)، وحتى سناء الفدائية من لبنان (أداء في شكله الأكثر نمطية من نادرة عمران). بعيداً عن الأداء السيئ لدوري السجانة هافا، والفدائية سناء، هناك مفاجآت جميلة على صعيد الأداء لكل من ميساء عبد الهادي في دور ليال، وأناهيد فياض في دور عميلة الزنزانة. يبقى أن نشير إلى هيفاء الآغا التي تقدم أداء شفافاً وقوياً في دور «أم علي» جدة المعتقلات ذات الروح الشابة والمرحة، وإلى ركين سعد في دور «جميلة» الشابة الصغيرة المتمردة التي تتلصص على سجن الرجال الملاصق.
بدون بروباغاندا
بالرغم من أنهن في السجن لا تتوقف الحياة لدى هاتي النسوة، فهن يحكين قصصهن، يعترضن على ظلم السجان، ويحلمن بالحب عبر جدران السجن، كما يحتفلن بالولادة. لم تتخلَّ المصري عن موقفها من الاحتلال، بل حاولت أن تبرزه عبر القيام بالكثير من الخيارات الفنية التي تجعل من الفيلم أكثر إنسانية، وأقل بروباغاندا. لدرجة أننا يمكننا أن نحس أننا أمام فنانة تخشى على قصتها الإنسانية من ثقل الصراع، الأمر الذي يجعلها تتخفف من الدراما فلا تدفع المأساة إلى حدود إيلام المشاهد.
عندما تشاهد صراعاً من هذا النوع، ولا تتألم كمشاهد، يكون العمل ناقصاً: فمن غير المنصف للمشاهد ألا يبكي مع مقتل إحدى السجينات، أو عند الحكم المجحف، أو في مشاهد التعذيب المقتضبة. كذلك من غير المنصف ألا نضحك مع ولادة الطفل واحتفاء خالاته السجينات به. كما أنه من المجحف أن تمر قصص الحب الثلاث بلا حرقة في القلب، أو دغدغة. هذا القصور في التعبير الشعوري يظهر من خلال المجالين البصري والسمعي للفيلم، عبر سلسلة من الرموز التي تُحلّها المخرجة مكان التعبير المباشر. الضوء مكان الفرح، الكيس النايلون الذي لا يخترق حديد السجن، مكان الروح التواقة للحرية، مشهد مرور الشمس على الجدران (المنفذ بطريقة سيئة) لتسجيل مرور الوقت… الكثير من الرموز والإشارات التي تتغاضى بها المخرجة عن الدخول في تعبير أكبر عن المشاعر، تستعيض بها عن العرق، نوبات الخوف، البكاء، أو الضحك الهستيري. هل الخوف من الوقوع في المبالغة هو الذي يحول دون تقدم الفيلم في هذا المجال؟
خيار جريء
على الرغم من الخيار الفني الجريء في التصوير داخل سجن حقيقي، إلا أننا لا نحس بثقل أو تاريخ المكان. الصورة تبدو دائماً واضحة ومساحتها في الإضاءة والألوان قليلة التباين (كونتراست). كأنما تريد المخرجة أن ترى كل شيء بوضوح، بلا أي غموض. بالرغم من أن المكان الذي تجري فيه أحداث الفيلم (السجن) مغلق وضيق وقليل مصادر الإضاءة، ومن المنطقي أن تكون الألوان والإضاءة فيه على كثير من التباين. هو خوف من التباين، من رؤية الصورة غير المكتملة. لا تغامر المخرجة في فيلمها الأول في أن تحجب نصف الصورة، أو نصف الوجه. لا تغامر في لقطات أكثر التصاقاً من الأجساد في مكان ضيق. لا تغامر في أن تدفع الدراما أكثر، أن تعمّق الصراع. تبدو الكاميرا مرتاحة في المساحة، مما يبعدنا عن الغوص في أجساد هؤلاء النساء، والإحساس بضيقهن بهذه المساحة.
في فيلمها الروائي الأول، تتجدّد مي المصري وتجتهد بعدة فكرية عالية، والتزام عهدناه منها بالقضية، إلا أنها تقع فريسة الخوف من الخيارات الفنية الأكثر عمقاً. فيلم يستحق المشاهدة، ويُعَدّ نقلة نوعية لمخرجته.

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى